مقالات

المعادلة الجديدة للقديم والجديد/ بقلم: محمد فرج

“الفقر لا يصنع ثورة، وإنما وعي الفقر هو الذي يصنعها، الطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً، وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً” (كارل ماركس).

إن أهم ما قدمه ماركس كفيلسوف القرن التاسع عشر، وما سببه من هدم لآراء الفلاسفة من قبله، هو صياغته الواضحة والمتماسكة لمعنى التغيير في البنى الاجتماعية الاقتصادية في التاريخ، التراكم الذي يفضي لاحقاً لموت القديم وولادة الجديد، وانسجم ذلك إلى حد كبير مع ما قدمه داروين ووالاس وإنجلس كذلك على مستوى العلوم الطبيعية. القديم يتلاشى ويولد الجديد، التطور والتغيير هو السمة الأساسية لقانون التاريخ الاجتماعي والطبيعي، ولا ينوب عن هذه السمة شيء إلا الاضمحلال والتلاشي والانقراض.

لم يكن هنالك من إمكانية موضوعية وذاتية لاختراع عامل تاريخي يوقف انهيار الإقطاع واستبداله، لم يكن هنالك من عامل يمنع انهيار الاقتصاد المنزلي أمام ولادة التجارة والأسواق، تماماً كما لم يكن هنالك أي تدخل ممكن لإيقاف انقراض أنواع معينة من الكائنات الحية.

اهتزت هذه الصيغة، والتبست على البعض ملامحها الأساسية في مرحلة الإقتصاد الرأسمالي، انحاز عدد كبير من المفكرين للعنصر الذاتي كلاعب وحيد في التاريخ، أو أن التاريخ انتهى عند هذا الحد ولا أفق لأي جديد. لقد تجنبت هذه النظريات والأفكار فهم معادلة التاريخ الجديدة، الإنسان العلمي الذي طور كثيراً من شروطه التفاوضية مع الطبيعة، لقد بدأ هو يطور الكائنات الحية، ويوقف تطورها، ويحولها إلى مسخ، وفي الاجتماع بدأ يطور الصراع، ويحوله هو الآخر إلى مسخ، ويحتويه، ويمنعه من الوصول إلى لحظة طلاق نهائي.

إن المعادلة القاتلة في هذا العصر هي عجز الجديد عن الولادة موضوعياً بالتحديد، وإمكانية القديم إعمال ولادة قيصرية لجديد مصطنع، وإمكانية تحويله إلى مسخ كذلك. ولكن، كل هذا لا يعني أي انحراف عن القانون الأساسي للتراكم والتغيير، كيف؟

إن تطور قوة العامل الذاتي تاريخياً رفعت من عتبة النقطة الحرجة، أو نقطة الانعطاف التي يموت عندها القديم تماماً ويدفن إلى غير رجعة، ويعلن الجديد انتصاره، ودخوله هو في مرحلة الصعود، ودورة الحياة ذاتها. لقد بات المنتصر اليوم أكثر قدرة على الدفاع عن نفسه غداً قبيل أفوله وتلاشيه، إنه أكثر قدرة على رفع مستوى النقطة الحرجة لموته النهائي.

النظام الرأسمالي العالمي على سبيل المثال يعاني من أزمات متتالية، ولم تكن أزمة 2008م الأزمة الأخيرة، ولكن النظام ما زال يحاول، وبنجاح في كثير من الأحيان:

  • الاحتواء (الضمان الاجتماعي، التأمين الصحي المجتزأ، الرحلات السياحية الجماعية ذات التكلفة المخفضة، الألعاب الإلكترونية، بيوت الدعارة، عروض الفنادق لموظفي الشركات).
  • المقاومة الشديدة (أجهزة الأمن، التجسس، المراقبة التكنولوجية الحديثة).
  • إنتاج جديد مصطنع “مسخ” (ثورات دستورية في مجتمعات تحتاج ثورات اشتراكية، تغيير الأنظمة شكلياً من خلال تغيير رموزها فقط، استبدال الأحزاب والنقابات بمنظمات ممولة أجنبياً).

ما جرى هو أن قانون التراكم ما زال معتملاً بالطريقة ذاتها، إلا أن تطور قدرات العامل الذاتي أفضت إلى معادلة تاريخية جديدة، تحتاج من الجديد أن يطور أدواته الذاتية أكثر، ليعيد النقطة الحرجة إلى موقع معقول، في ظل قدرات السلطة الأكبر إمكانية مما سبق تاريخياً.

إن ما يجري في العالم إنما هو تعبير عن صيغة التراكم القديمة الجديدة، القديم يموت، ولكنه يمتلك أدوات مقاومة أكبر وبكثير، ومن موقعه تمكن من تخفيض شروط الجديد، فاتسعت الفجوة بما يتجاوز ما كنا نفهمه عن هزيمة الإقطاع أمام البرجوازية.

صحيح أن الرأسمالية العالمية تحفر قبرها بيدها، ولكنها لن تقفز إليه مختارة، كما أنها بحاجة لمن يغطيها بالتراب!

إن وجود معادلة جديدة للقديم والجديد لا تعني إطلاقاً نظرية جديدة لتوصيف العلاقات بينهما، إنها تعني الظروف الجديدة التي تعيش فيها النظرية ذاتها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى