بين النكبة والحاضر/ بقلم: يارا درويش
بالرغم من مرورنا يومياً بتفاصيل لا تزال مُستمرة منذ عام 1948 حتى يومنا هذا، إلا أن يوم الخامس عشر من أيار من العام نفسه كان له الوَقع الأشد وطئة. أطلقوا كلمة النكبة على الشعب الفلسطيني الذي غادر وطنه ومدنه وبلداته في ظروف مأساوية، حيث قامت العصابات الصهيونية بإنشاء الكيان الصهيوني على أنقاض شعبنا الفلسطيني من خلال تدميره لحوالي خَمسُمئة وثلاثة عشر (513) قرية فلسطينية وطرد سُكانها حيث توزعوا في الوطن والشتات، وما كان لكل هذا أن يحدث لولا تعاون بعض الأنظمة العربية مع مُنشئي هذا الكيان من الصهاينة ومع أربابهم من الاستعماريين.
مهما يكن الأمر، فإن النكبة ما كانت لتحدُث بحجمها الكبير هذا أيضاً، لولا تضخُم قيم معينة لدى شعبنا على حساب قيم أخرى، فعندما تتضخم قيم العرض على حساب قيم الأرض وقيم الأمن الذاتي على حساب قيم الأمن الوطني، فما أن تسري شائعة أو يصل خبر يقول بأن العصابات الصهيونية قامت بحالة انتهاك، أو اغتصاب في بلدة معينة أو قاموا بمذبحة هنا أو هناك، فسرعان ما تجد الكثيرين من الناس قد ولّوا الأدبار دون الالتفات لأي شيء تركوه وراءهم. ولا شك بأن العدو الصهيوني قام باستغلال هذه الطرق والأساليب للنيل من صمود وثبات أبناء شعبنا الذين تركتهم الأنظمة آنذاك يقعون فريسة سهلة لمثل هذه المكائد والأحابيل، هذا بالإضافة إلى ما كانت تبثه هذه الأنظمة من شائعات وأقاويل بأن “اتركوا بيوتكم وأراضيكم الآن ولا تكترثوا فالمسألة لا تتعدى الأسبوع أو الأسبوعين وستعودون إليها بفضل الجيوش العربية معززين مكرمين”. وللعلم فقط فإن العصابات الصهيونية في الوقت الذي كان باستطاعتها تجنيد وتجييش حوالي الستين ألف مقاتل لم يكن باستطاعة الجيوش العربية التي كان لديها الإرادة في القتال -إن وجدت هذه الإرادة- تجنيد أكثر من حوالي الخمسة عشر ألف مقاتل. هذا تأهيل عن نوعية الاختلاف البيّن في طبيعة الإمكانيات التسليحية المتوفرة لدى الطرفين وميلها دائماً لمصلحة العدو الصهيوني. ومن اللافت أيضاً وعي الصهاينة المبكر لقيمة سلاح الجو في أية معركة، حيث عملوا على توفير بعض الطائرات المقاتلة واستخدامها في المعارك آنذاك في الوقت الذي افتقدت الجيوش العربية لاستخدام مثل هذا السلاح.
أما الآن وبعد انقضاء ما يقارب السبعة عقود على النكبة الأولى، فإننا نجد أنفسنا، نحن العرب عموماً، في وضع لا نُحسد عليه بتاتاً، فإذا أخذنا وضعنا الفلسطيني؛ نجد وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها البندقية الفلسطينية والمقاتل الفلسطيني على صعيد بلورة الهوية الفلسطينية وبروز قضيتنا في المحافل الدولية كقضية وطنية وانسانية من الدرجة الأولى، إلا أن الوطن أصبح وَطَنَيْن والسلطة سُلطَتَيْن -وطبعاً من غير سلطة حقيقية- وفي حين أننا بقينا كلاجئين أو نازحين في أماكن اللجوء أو النزوح نفسها لعقود طويلة في الوطن والشتات، إلا أننا الآن أصبحنا نُزاحم في أماكن تواجدنا الحالية.
ففي الوطن راحت العصابات الصهيونية تزرع لنا مستعمرة في جانب كل بلدة أو قرية أو مدينة لتُضيق علينا في كل مناحي حياتنا، فالعدو حالياً يُزاحمنا في أرضنا ومائنا وهوائنا وأماكن عبادتنا وكل شبرٍ من أماكن تواجُدنا وما تبقى لنا من وطن، بالإضافة إلى الفساد بشتى أنواعه التي تسعى جاهدة لتُغلغله في مجتمعنا والعقول الناشئة، أما الشتات فحَدّث ولا حَرج فبعد أن أصبحت مخيمات لجوئنا ونزوحنا وطناً ثانياً، رُحنا نُلاحَق فنُهَجّر ونَنزح من جديد وهنا الطامّة الكبرى، حيث أصبح كل همنا هو البحث عن مكان آمن فقط! ولو كان في المريخ ونسينا تماماً العودة إلى أماكن لجوئنا أو نزوحنا وعن عدم ذكرنا بتاتاً لمسألة حق العودة التي لطالما كان هذا شعارنا الأكثر أهمية للمطالبة بتحرير فلسطين. كما وأصبحت قضية فلسطين وتحريرها هي أبعد ما يكون عن الأجندة الفلسطينية أو العربية فما بالك بالنسبة للأجندة الدولية! أما بالنسبة للأنظمة العربية فقد أصبح كل همها الحفاظ على كينونتها وبقائها في الدرجة الأولى لأن ما يجري حالياً يهددها في العمق ككيانات وكأنظمة بحيث يصبح بالنسبة لها مسألة فلسطين وتحريرها هي ترف لا تقوى عليه أو تتجرأ على الخوض فيه بتاتاً.