سلفادور دالي . . عبقري الرواية الواحدة…لينا هويان الحسن
(حين استيقظ كل صباح، اختبر لذة لا تُضاهى: إنني سلفادور دالي، وأسأل نفسي ما الذي سيفعله اليوم هذا الإنسان المعجزة)
يكاد يكون الآدمي الوحيد الذي جنّ بنفسه لكنه احتفظ بعبقريته. كانت مفاجأة حقيقية روايته: «وجوه خبيئة، الموت في الحب»، لم أكن أعرف أن دالي روائي؟! قليلون هم الناس اليوم الذين يعرفون أن سلفادور دالي، أصدر رواية باللغة الفرنسية عام 1944؟ ومؤخرا حظيت بها المكتبة العربية مترجمة بقلم متيّم الضايع وصادرة عن دار الحوار.
من الطبيعي أن كثافة نشاطه الفني المتنوع والثري والمفاجئ وتفاصيل حياته الصاخبة، أمور من شأنها أن تغطي على هذه الرواية الرائعة، على الرغم من أهميتها الكبيرة على أكثر من صعيد. فشهرة دالي ظلت مرتكزة بشكل رئيسي على لوحاته ذات الحساسية الفنية المافوق طبيعية، إضافة إلى الحلي والقطع السريالية التي ابتكرها ونشاطه المسرحي والسينمائي وسيرته المثيرة التي خصص لها كتاباً بعنوان «يوميات عبقري، حياتي السرية». لكن الحقيقة هي أنه أيضاً روائي مذهل، كما تنبأ به صديقه الشاعر الكبير غارسيا لوركا منذ عام 1922 بقوله إن مستقبل دالي هو في الرواية الصرفة».
الرواية تكشف أغوار سحيقة في تكوينة سلفادور دالي 1904- 1989 أحد أهم فناني القرن العشرين، وأحد أعلام المدرسة السريالية، تمكن من إلغاء الحدود بين الروح المشاكسة الهائجة والاستعراضية الفاضحة. تميزت أعماله الفنية التي تصدم المشاهد، بموضوعها وتشكيلاتها وغرابتها، وكذلك اشتهر بفجاجة غرابة شخصيته وتعليقاته وكتاباته غير المألوفة والتي بلغت حد الاضطراب النفسي.
دالي امضى أربعة أشهر في عزلة في جبال «نيو هامبشر» قرب الحدود الكندية، يكتب بعناد لأربع عشرة ساعة يوميا، حتى انهى روايته هذه «وجوه خبيئة» وبدون أي تردد أو إعادة لما كتب!
لماذا كتبت هذه الرواية؟
يجيب دالي:
(أولا: لأن لدي وقتا كافيا لأفعل كل ما أريد، وأردت أن أكتب هذه الرواية. ثانيا: لأن التاريخ المعاصر يقدم إطاراً فريداً للرواية التي تتعامل مع تطورات وصراعات العواطف الإنسانية العظيمة، ولأن قصة الحرب وبشكل خاص، الفترة اللاذعة لما بعد الحرب، يجب أن تكتب حتماً. ثالثا: لأنني إن لم اكتبها فسيقوم شخص آخر بكتابتها مكاني وسوف يكتبها بشكل سيئ).
في مقدمتها لم يتوقف عن كيل المديح الباذخ لنفسه، فإذا كان هنالك رواية «بلزاكية» فهنالك رواية «دالية»؟!
(عاجلا أم آجلا، لابد أن يأتي الجميع إلي! بعضهم لم يتأثر بلوحاتي ويقرّ أنني أرسم مثل ليوناردو. والآخرون الذين تضاربت آراؤهم مع قيمي الجمالية، يوافقون على اعتبار سيرتي الذاتية إحدى «الوثائق الإنسانية لهذه الحقبة. لكن بعضهم الآخر والذين يشككون بأصالة كتابي «الحياة السرية» اكتشفوا فيّ مواهب أدبية تسمو على مهاراتي التي أُظهرها في لوحاتي).
ثمة استلهام واضح لكن بأسلوب «دالي» عصري، لرواية تريستان وايزولده، كُتبت في القرون الوسطى، ويرجع تاريخ أول نسخة منها بالفرنسية إلى القرن 12. أدمجها الكاتب توماس مالوري في قصته المشهورة «موت آرثر» في القرن 15، وهي تحكي قصة الفارس تريستان الذي بعث ليجيء بعروس للملك مارك من إيرلندا، هي الحسناء إيزولدة التي تناول معها مشروباً سحرياً ، فنشأ بينهما نتيجة لذلك حب متبادل أدى في النهاية إلى موتهما. من الواضح تأثر واعجاب دالي بالاوبرا التي لحنها الموسيقار الألماني فاغنر مستوحيا حكاية تريستان وإيزولده.
إن الحيوات المتشابكة لأبطال الرواية، الكونت إيرفيه دي غراندسايه، وصولانج دي كليدا وجون راندولف، وفيرونيكا ستيفنز وبيتكا، تشكل وسيلة درامية وممتعة جدا للقراءة ابتداء من أحداث شغب باريس عام 1934 حتى آخر أيام الحرب. حيث ثمة قراءة لأفكار دالي وفلسفته الاستثنائية النرجسية. دالي هنا يرسم شخصياته كلوحات، الدقة ذاتها التي نراها في لوحاته، نقرأها في روايته. لوحات دالي ترسم الشخصيات بدقة إلى درجة تجعلها أقرب إلى الصور الفوتوغرافية. كتاباته تصويرية، لها ميزة المشهدية السينمائية، وكما هو الحال في لوحاته فإن الصور الظاهرة والمستدعاة تتعزز بتحفيز كل الحواس الأخرى، الصوت والشم والتذوق واللمس، إضافة إلى التظليل بعناصر روحية من عالم آخر تتجاوز الحواس والمنطق المنسوجة في لحمة الحياة الانسانية كما تنعكس في وعي مفرط للاحساس.
ويبدو واضحا أن دالي، سيد الاستعارات المركبة والنعت الفائض، مأخوذا بعوالم الثراء والارستقراطية. كل الابطال: ماركيزات وكونتيسات ودوقات. تبدو الرواية بالنسبة لكاتبها كحلم يقظةٍ مغرٍ.
الشغف
شغف غريب ذلك الذي جمع ما بين ارفه دي غراندساي وسولانج دي كليدا. لقد تنافسا على مدى سنوات خمس مضت، في حرب لا رحمة فيها من الاغواء المتبادل. ففي كل مرة يشعر فيها الكونت باستسلام سولانج لسكون الرقة والحنان يندفع متقدما بنفاد صبر وبذرائع جديدة كي يجرح كبرياءها، ويعيد تأسيس سلوك عدواني نادر وبري ينجم عن رغبة غير مشبعة. لاشيء أكثر إرهاقا من شغف من هذا النوع.
اذا ما رصدنا تلك الرؤى التي كانت تتابع في مخيلة الكونت، دون استمرارية واضحة، لكنها تحتوي على تلك الحدة البصرية التي تميز لوحات دالي، سنتأكد أن دالي لم يتخلَ عن «الرسم» خلال كتابته للرواية.
مثال احدى تلك الرؤى: بركة كبيرة من الدم لحصان مشقوق البطن ! ألا تذكرنا هذه الصورة بمشهد من فيلمه الشهير الذي صنعه عن السوريالية مع بونويل، حيث مشهد الشفرة التي تفقأ عين فتاة؟!
يغطي سير الأحداث في الرواية التي تنتقل بنا من فرنسا الى إفريقيا الشمالية ومن جزيرة مالطة الى الولايات المتحدة فترة الحرب العالمية الثانية بمعظمها، ودالي المعجب بنبوءات نوسترا أداموس، وفي رؤية نبوئية فذة يستبق نهاية الحرب بإدراجه مشهداً حلمياً نشاهد فيه هتلر منتظراً نهايته القريبة بمزيج من السهر والفزع وعلى خلفية موسيقى فاغنر.
ثمة تقاطعات خفية بين سولانج وزوجته غالا، تبدو من خلال وصفه لموت سولانج حيث يرسم لنا مشهدا شبيها بإحدى اللوحات التي تظهر بها غالا. سولانج وهي ترتدي فراء الثعلب، تشبه معظم الصور الفوتوغرافية التي كانت تظهر بها غالا وهي متدثرة بالفراء من رأسها حتى قدميها. طبعا دالي يهدي هذه الرواية إلى غالا: (أهدي هذه الرواية إلى غالا، التي كانت إلى جانبي دائما عندما كنت أكتبها، والتي كانت الجنية الجيدة لتوازني، التي نفت عظاءات شكوكي . .)
دالي الذي أراد أن يكون في السادسة من عمره «طباخة»، مع تأكيد الناحية الأنثوية للتعبير، وفي سن السابعة: نابوليون. «منذ ذلك الوقت لم يتوقف طموحه عن الازدياد، كما هي الحال بالنسبة إلى جنون العظمة المتجذر في نفسه، أفلح في أن يكون روائيا عبر عمل واحد، يُطلعنا على زخم ابداع دالي وفنه حيث يختلط الجنون بالعبقرية، ليؤسس ذلك لاسطورته التي أراد لها أن تكون، لهذا يبقى مختلفاً واستثنائياً في فوضاه، في تنصله من الالتزامات الاخلاقية، في جنون عظمته، وفي نرجسيته الرهيبة.
(كاتبة سورية)