مقالات

المقاطعة، من ردّة الفعل إلى ثقافة التعوّد، سلاحنا الشعبي في وجه التطبيع والمنع

على مدار ما يزيد عن واحد وعشرين شهرًا من حرب الإبادة الجماعيّة المستمرة على غزة، بقيت المقاطعة الشعبيّة في الأردن السلاح السلمي الوحيد الذي ظل قائمًا في وجه الاحتلال، بعدما جرى التضييق على كل أشكال الفعاليّات التضامنيّة والمناصرة في الشارع، فالمقاطعة التي بدأت كحالة غضب جماهيري وردة فعل على المجازر، تجاوزت سريعًا لحظة الانفعال العاطفي، وتحولت إلى سلوك يومي وثقافة مجتمعيّة راسخة أعادت صياغة وعي الناس تجاه استهلاكهم وخياراتهم في السوق.

لم تعد المقاطعة مجرّد موقف أخلاقي مؤقت، بل فعل مقاوم يُمارس عبر الاقتصاد اليومي، بعدما أُغلقت الساحات والميادين ومنابر الاحتجاج؛ صحيح أن حدّة المقاطعة تراجعت مع مرور الوقت، لكن أثرها ظل متجذرًا في المجتمع، إذ لم يعد من السهل على الكثيرين العودة لاستهلاك ما كانوا يشترونه قبل العدوان.

وفي ظل التطبيع الرسمي القائم والاتفاقيّات السياسيّة المستمرة مع الاحتلال، تظل المقاطعة الشعبيّة هي المتاح، وأداة المقاومة المدنيّة السلميّة التي لا تملك السلطة السياسيّة أو الأمنيّة القدرة على مصادرتها، كل مواطن قادر على أن يمارسها بصمت، من اختياراته في “السوبرماركت”، إلى ما يطلبه في المطاعم والمقاهي، إلى قائمة المنتجات التي يُفضّلها في بيته.

وقد أسهم في ترسيخ هذا الوعي إصدار تجمع اتحرّك لمجابهة التطبيع قبل أشهر دليلًا، جرى تحديثه، مفصّلاً يضم أكثر من 400 شركة وعلامة تجاريّة مرتبطة بالاحتلال أو داعمة له بشكل مباشر أو غير مباشر، كما ساهمت في هذا الوعي حركات المقاطعة، والناشطون، والمؤثرون، فصار هذا الجهد كله مرجعيّة شعبيّة للمستهلك الأردني وأداة تنظيميّة تدعم خيار المقاومة الاقتصاديّة وتُسهّل على الناس اتخاذ قرارهم بمعرفة ووعي.

ورغم التحديّات ومحاولات شيطنة المقاطعة أو التخفيف من أثرها، إلا أنها كما قيل، لم تعد موجة مؤقتة، بل تحوّلت إلى سلوك مجتمعي وثقافة استهلاك يوميّة؛ وهذا ما جعل أثرها في الأردن مختلفًا عن أي حملة مقاطعة سابقة، إذ باتت تمثل مزاجًا عامًا وسلوكًا متجذرًا لا مجرد حالة غضب طارئة.

لم يعد الناس ينتظرون تصعيدًا عسكريًا جديدًا أو مجزرة أخرى كي يستعيدوا حماستهم للمقاطعة، لقد أصبحت في الأردن جزءًا من معركة الوعي، وفعل مقاومة مستمر بقدر استمرار الاحتلال.

ما تحقق في الأردن خلال الشهور الماضية ليس أمرًا عابرًا، فالمقاطعة رسخت نفسها كثقافة مجتمعيّة وسلوك واعٍ لا يُقاس فقط بحجم الخسائر التي لحقت بالشركات الداعمة للاحتلال، بل بمدى التغيير الذي طال وعي الناس واختياراتهم اليومية. ولهذا، فإن مسؤوليّة الحفاظ على هذا الإنجاز تقع على عاتق الجميع، أفرادًا ومجتمعًا.

لا يجوز التراجع الآن أو السماح بانحسار موجة المقاطعة تحت ذريعة الاعتياد أو انشغال الناس بهمومهم اليوميّة، فكل منتج يُقاطع، وكل شركة تُحاصر شعبيًا، هو حرمان للاحتلال من جزء، ولو بسيط، من تمويل آلة الإجرام التي تستبيح دماء أهلنا في فلسطين، وفي المقابل، فإن دعم المنتج المحلي الذي أثبت جدارته وكفاءته، هو خطوة أخرى على طريق التحرر الاقتصادي والسياسي.

فلنستمر في المقاطعة، ليس كفعل موسمي، بل كمعركة وعي لا تهدأ إلا بزوال الاحتلال.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى