عودة جان فلجان…زياد أبو عبسي
كتب الروائي الفرنسي الشهير “فيكتور هيغو” رائعته “البؤساء” في رواية شهيرة احتلت مكانة رفيعة في تاريخ الأدب الغربي. تكمن أهمية هذه الرواية في أنها تحكي أزمة يعيشها الإنسان في صراع بين واجب الفرد أمام القانون وواجب الفرد الطبيعي في الحياة كما هي الحياة. أعني بذلك أن القانون يضع حواشيه على سيرورة البشر في اجتماعهم السياسي. هذا من جهة، من جهة أخرى هناك حواشٍ موجودة مع الإنسان في وجوده الكوني والتي ترخي بظلالها على كل فرد فتحدو به لأن يجنح عن مساره السياسي المدرج والمنمق بحواشي القانون والقضاء حافظ هذه القوانين.
حكاية “جان فلجان” كما رواها الأديب الروائي والمسرحي الفرنسي القدير “فيكتور هيغو” تتلخص في أن السيد “فلجان” قد اضطر يوماً أن يسرق رغيفاً من الخبز لإشباع عائلته. إن الرغيف الفرنسي كبير ما فيه الكفاية لأن يشبع عائلة صغيرة. لقد حاز “فلجان” هذا على اقتناء الرغيف من دون أن يدفع ثمنه، فهو كان محتاجاً ولم يملك المال اللازم ليبتاع به رغيفاً لإطعام عائلته. حكمت عليه، وبناءً على فعلته، المحكمة بالسجن. دخل “جان فلجان” إلى السجن وخرج من السجن، غير أن إثمه ما زال وما محته أجهزة الدولة التي بقيت تقتفي أثره فهو لص سارق وخطر على المجتمع. انتقل “فلجان” من مكان إلى آخر، غيّر اسمه واحتل مناصب رفيعة وعمل من الحسنات كثيرها؛ لكن المفتش “خافير” بقي وراءه وأعاده إلى السجن لكي يحمي المجتمع منه. صحيح بأن السيد “فلجان” قدّم الكثير من الحسنات وأعمال الخير؛ لكنه بنظر القانون يبقى لصاً.
بزغت نجوم الرومانسية في أوروبا مع بدايات القرن الثامن عشر. تعتبر الرومانسية أن ما يقوم به الإنسان على وجه الأرض ينشأ عن إراقة الفرد الذي يعيش في كنف المجتمع وما يحتويه هذا المجتمع من قيم ومناقب. ثاني أهم رواسخ الرومانسية هو أن الإنسان ذو قلب يخفق في سعيه لعظمى المبادئ ويسعى إلى أن يقترب مما هو مقدّس. القانون ليس بالشيء المقدّس ولمنع أي التباس وجب القول إن القانون المدني ليس مقدساً حسب الرومانسيين. إن المصلحة السياسية يخدمها قانون سياسي. بكلام آخر، هذا القانون قد وضعته زمرة تود أن تحفظ نفسها وما لها، ولهذا يأتي القانون ليخدم فئة على أخرى. في حكاية “البؤساء” ترى بأن القانون قد وضع ليحمي صاحب السلعة وليس العائلة التي تحول ولا حيلة لديها لإشباع نفسها.
تأتي الثورة الفرنسية في نهاية الرواية كردٍ في سياق التاريخ على ظلم حصل في عبر الزمان. إن الثورة الفرنسية أتت نتيجة للإجحاف الحاصل والظلم المتأسس في تلك البلاد. لقد طرحت الثورة الفرنسية مبادئ ثلاثة ما زالت تطرب الآذان لسماعها ألا وهي: 1- حرية، 2- إخاء، 3- مساواة. أتت الثورة من شعورٍ بشري عارم يملي رغبة الإنسانية وتوقها لبناء مجتمع أفضل يتمتع في أحضانه المواطنون بحياة يسودها الحب والوئام بعيداً عن الظلم والطغيان. هذا مسار إنساني بحت. إن الإنسان لا ينجذب لما هو بعيد عن حقيقته أو طبيعته.
إذن، الثورة هي عامل إنساني وهذا بالدرجة الأولى، وظيفة هذا العامل الإنساني هي إعادة المسار البشري في التاريخ إلى ما يجب أن يكون عليه بموجب الإرادة الإنسانية، ولهذا نقول بأن الثورة هي حالة إنسانية بحتة وهي عفوية أي تأتي من غير اصطناع أو تركيب.
ماذا لو عاد “جان فلجان” في لحظات الزمن الحاضر؟ ربما قلنا بأنه سوف يؤسس لجريمة منظمة بحق القانون. أعني بذلك أنه ربما توخى عمداً أن يستبيح القانون الجائر الظالم. قد يفعل هذا لأن هكذا أمر صار شائعاً إلى حدٍ ما. ربما قال “جان فلجان” بأنه سوف يعمل لدى بائع الخبز لقاء بدل وهذا البدل هو رغيف الخبز. لما لا؟!. هناك احتمالات كثيرة جائزة وممكنة الحدوث. لكن الصورة التي تخطر ببالي هي أن “جان فلجان” سوف يتوجه إلى فيكتور هيغو بهذا السؤال: ماذا تريدني أن أقول في هذا الألف الثالث أيها الأديب؟ يجيب فيكتور هيغو ابدأ الثورة فليس بك حاجة لأن تجرّب وليس لدينا وقت للكلام.