لماذا الهجمة على المقاطعة؟
في كل مرحلة من مراحل الصراع وعند لحظات احتدامه واحتدام المواجهة سرعان ما يظهر بعض الكتاب والمثقفين وقد تدثروا باسم الحرص على المصلحة الوطنية او بعبثية الموقف فيظهرون بصورة الواعظ الحكيم الذي يعرف ما لا نعرف والمدرك لعواقب الامور أكثر من غيره، محاولين تشويه صور الإجماع الوطني مستخدمين ذرائع شتى، وساحاول أن استحضر من الأحداث السياسية ومن الماضي ما يشبه واقعنا.
في عام ١٩٨٢ وبينما كانت القوات الصهيونية تحاصر بيروت وتمارس أبشع جرائمها بحق اللبنانيين والفلسطينيين جرى لقاء وطني سياسي ونقابي حاشد في مجمع النقابات حيث جرى نقاش واسع في كيفية دعم وإسناد المقاومة، وكان من الأطروحات التي لاقت قبولا واسعا هي الدعوة لمقاطعة البضائع الامريكية، لاحظوا كيف تتسلل الدعوات الإجهاضية لتطوير الحراك الشعبي حيث انبرى طبيب وازن ومثقف وذو خلفية ليبرالية ليشرح للحضور عدم جدوى هذة الخطوة لأن ما تستورده الأردن لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من الصادرات الأمريكية، متناسيا هذا الطبيب المثقف والذي صار وزيرا لاحقا بأن الخطوة بمجملها خطوة تعبوية ضد السياسة الأمريكية المعادية لشعوبنا العربية حتى وإن كان الأثر الاقتصادي محدودا للغاية، مع أن العلم أثبت أن الأحداث الصغيرة قد يكون لها تأثيرا كبيرا كأثر جناح الفراشة كما أشار لذلك عالم الأرصاد الأمريكى “لويد لوبنتز” من أثر جناح الفراشة في مكان قد يكون إعصارا في مكان آخر.
محطة أخرى من الزمن
بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانتشار الظاهرة الليبرالية في العالم خرج علينا مثقفوا التبعية والارتهان، كما أسماهم الدكتور فضل النقيب لينادوا بالتخلص من القومية ومن الصراع مع “إسرائيل” باعتبارهما سبب التخلف والاستبداد وان الحل يكمن في التصالح مع الكيان الصهيوني.
محطة أخرى
قبل شهر من الزمن جرى لقاء مع معالي وزير الشوؤن السياسية مع أمناء الأحزاب، وشيء طبيعي أن يجري حديث حول الحرب على غزة والصادرات للأردن “لإسرائيل” ومضيق باب المندب، في الربع ساعة الأخيرة حضرت ممثلة حزب جديد وكبير، تم استخدام كل هرمونات النمو والتضخم لتحضيره فى قادم الأيام لدور ما، هذه السيدة مع أنها لم تسمع الحوار، دخلت علينا بلغة الواعظ الذي يطالبنا بالتفكير بمصلحتنا الاقتصادية من خطوة الحوثيين كما يحلو للبعض إطلاق التسمية عليهم متجاهلة وهي الوزيرة السابقة أن المستهدف فقط هي البواخر الذاهبة إلى الكيان وأن الأردن ليس مستهدفا لا من قريب أو بعيد.
أرجو التدقيق من هذا التذاكي ومحاولة التسلل إلى عقل المستمع لخلق حالة التباس ذهنيا لديه ودفع الناس لرفض موقف اليمن المشرع تحت مبررات زائفة.
في الآونة الأخيرة ظهرت كتابات كثيرة تتحدث عن المصلحة الوطنية وأولوية الداخل على الخارج وأن الدولة تقوم بدورها كما يجب فى مسألة الحرب على غزة، وأن المقاطعة كمن يطلق النار على قدمه كما أشار كذلك الأستاذ حسين الرواشدة، محاولا إظهار عبثية المقاطعة، وكأن المقاطعة بدعة أردنية وليست حركة شعبية عربية وسياسة رسمية مارستها جامعة الدول العربية منذ قيام الكيان قبل الإنهيار الرسمي العربي والهرولة نحو التطبيع.
ومارس المثقفون المصرييون المقاطعة مبكرا بعد كامب ديفيد وخاضوا معارك فكرية وسياسية مع المهرولين واللاهثين وراء التطبيع مع العدو.
والمسألة الأخرى أن المقاطعة باتت حالة شعبية أردنية وعربية ولم يعد أحد قادر على المناداة بالتطبيع ووقف المقاطعة إلا الذين لا يرون ما يجري لأهل غزة، ولا يزالون غير قادرين على إدراك أن النار أكلت ثيابنا ولا يزال لدينا من يتجاهل ما يجري حوله.
إن النظر للمقاطعة لا يجوز أن يكون قاصرا على أعداد العاطلين كنتاج للعملية بقدر ما يفرض علينا البحث الجاد حول السبب الحقيقى للبطالة والرؤية الشاملة للصراع، وإلا فإن ما يقال أقرب ما يكون للتدليس السياسي.
إن ما يقلق الأوساط الرسمية أن المقاطعة باتت سلوكا شعبيا لدى البائع، يخطئ الاستاذ حسين الرواشدة إذا نظر لموقف الأردن بأن عملية الإنزالات للمواد التموينية كافية ويمكن لها التغطية عن عملية التطبيع والجسر البري، فالمسألة أعمق من ذلك ولا يعفي الأردن من مسؤوليته الوطنية والقومية.
إن تجاهل المخاطر الجدية التي تهدد الأردن ووجوده والقضية الفلسطينية والشعور بالرضا بالموقف الرسمي الذي أرى أن أقل ما يمكن وصفه بأنه ملتبس ويتعارض مع الموقف الشعبي الذي يشكك فيه الاستاذ حسين.
إن مشكلتنا أنه بالقدر الذي تبدي فيه الحركة الصهيونية تمسكها بأهدافها التي تبنتها مبكرا فإن مثقفينا وأنظمتنا تخلت عن جوهر الصراع تحت شعار وهم السلام.
لقد قامت فلسفة الحركة الصهيونية على أنها حركة استعمارية استيطانية وأنها النقيض لحركة التحرر العربية، فعطلت كل محاولات الوحدة، وأشاعت النزعات الإقليمية وشجعت على تبعية أنظمتنا للإمبريالية العالمية، باختصار جعلت من نفسها مخفرا متقدما يمارس قمعه ضد أي محاولة للنهوض، لذلك بنت جدارا حديديا من القوة ما يردع العرب ودفعهم للاستسلام.
إني أعتقد أن الدكتور حسين بإقحامه لنفسه في مواجهة مطلب شعبي عربي بل وعالمي أي المقاطعة التي باتت مطلبا لكل القوى التقدمية في العالم، مسألة ليست صائبة بكل المقاييس.