يوم العمال .. بين الماضي والحاضر
في الأول من أيار من كل عام يحيي العالم يوم العمال العالمي، وقد تم إقرار هذا اليوم كيوم للعمال نتيجة سنوات من النضالات والتضحيات التي قدمتها الطبقة العاملة في العديد من دول العالم كان أبرزها أستراليا وكندا وأمريكا، ولكن الحدث الأبرز، والأضخم، والأهم كان في مدينة شيكاغو في الأول من أيار عام 1886 حين نظم الحراك العمالي إضرابًا عامًا شارك فيه أكثر من 300 ألف عامل، وأدى إلى شل الحركة الاقتصادية في المدينة، وقد جاء هذا الإضراب احتجاجاً ورفضاً لظروف العمل الصعبة في ذلك الوقت، من ساعات العمل الطويلة والأجور الزهيدة التي يتلقاها العامل بالمقابل. لذا كان من أبرز مطالب العمال في هذه الاحتجاجات هو تحديد ساعات العمل بثماني ساعات باليوم. ولم ترق للسلطة ولا لأصحاب المصانع هذه المطالب وواجهوها بالرفض الشديد، وفي الرابع من الشهر ذاته اجتمع العمال المضربين في مظاهرة في قلب المدينة قام خلالها منظمي الإضراب بإلقاء خطابات حماسية، وحينها قامت الشرطة بمحاولة فضّ الاعتصام بالقوة، وبعد أن تم إلقاء قنبلة يدوية الصنع تجاه الشرطة اتهمت السلطة الأناركيين بإلقائها وردت بإطلاق النار عشوائياً على المتظاهرين وسقط العديد من القتلى والجرحى، وعلى إثر هذه الأحداث قامت السلطات باعتقال العديد من قادة الحركة العمالية، وحكمت على بعضهم بالإعدام وعلى الآخرين بالسجن. عُرِفَت هذه الأحداث بما يسمى أحداث ” هايماركت “.
تجاوز صدى أحداث ” هايماركت ” مدينة شيكاغو والولايات المتحدة وبلغ صداها عمال العالم أجمع، وبعد ذلك العام أصبحت الحركات العمالية والاشتراكية حول العالم تحيي ذكرى هذا اليوم وتعتبره مناسبة سنوية للتأكيد على حقوق العمال وتخليد نضالهم والتضحيات التي قدموها في صراعهم مع الرأسمالية، وفي السنوات التالية طالبت مؤتمرات الأممية الاشتراكية والمنظمات العمالية والنقابية عدم العمل في الأول من أيار وإعلانه عطلة رسمية كيوم عالمي للعمال، وفي يومنا هذا تحيي العديد من دول العالم الأول من أيار كيوم للعمال ويعتبر في معظمها إجازة رسمية، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي الدولة التي كان إضراب عمالها السبب المباشر لإحياء هذا اليوم أقرت عوضاً عن الأول من أيار يومًا آخر كعيد للعمال في أول يوم اثنين من شهر أيلول، كمحاولة لإفقاد “يوم العمال” طابعه النضالي المناوئ للسلطة.
لذا فإنه وعندما ننظر للحدث الذي يقف خلف قصة عيد العمال نجد أن للحركات العمالية والنقابية نضالات وتضحيات كبيرة قدموها في سبيل تحسين الظروف المعيشية والاقتصادية والسياسية، ومع بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وانتقال أعداد كبيرة من الفلاحين للمناطق الصناعية للعمل بها كقوة عاملة رخيصة الأجر محرومة من أبسط احتياجاتها، أدت هذه الظروف بالعمال إلى القيام بتنظيم صفوفهم والبدء بتشكيل صناديق الزمالة فيما بينهم، وقد تطورت هذه الصناديق فيما بعد لتصبح منظمات أكبر وذات أسس تنظيمية سميت بالنقابات وكانت تهدف الى الدفاع عن حقوق أعضائها ومصالحهم.
ومع انتشار الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر وظهور المصانع وتحول المدن إلى مدن صناعية، والارتفاع الحاد في أعداد العمال أصبحت النقابات العمالية تتوسع بشكل كبير وتكتسب صفات سياسية وتشارك في العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والتنموية وتأثر بها. في بدايات القرن العشرين وتأثراً بالمد الاشتراكي، أصبحت النقابات تأخذ طابعاً دولياً وتخطت حدود البلد الواحد من أجل حماية الطبقة العاملة، وكان الاتحاد السوفيتي الداعم الأول لها بالأخص في دول العالم الثالث.
وفي الثلث الأخير من القرن العشرين وما حمله من تحولات اقتصادية كبيرة، أهمها انتشار وتبني العديد من الدول النهج النيوليبرالي لإدارة الاقتصاد وسيطرة صندوق النقد الدولي على قرارات العديد من الدول، ونتيجة للوصفة النيوليبرالية في عمليات التصحيح الاقتصادي التي فُرِضت على بلدان العالم عبر القوة الأمريكية، تم تبني سياسات السوق الحر، وضرب الحركات العمالية وإفقادها طابعها الثوري. لذا قامت الدولة بمحاولة تفكيك وشن هجوم شامل على جميع الأجسام الاجتماعية المنظمة التي تهدف الى تدخل الدولة في الأسواق الاقتصادية فكان أكبر ضحاياها النقابات العمالية.
أما فيما يخص الأردن فقد تم الاعتراف بالنقابات العمالية رسمياً عام 1953 بعد صدور قانون أتاح للعمال حق التنظيم النقابي، وأصبح لها حضور وتأثير كبير في الساحة العمالية والسياسية، وقد خاض العمال عبر نقابتهم العديد من النضالات على مستوى قضايا العمال وحقوقهم، وأيضاً على مستوى القضايا السياسية الوطني منها والإقليمي، مثل وقوفهم في وجه حلف بغداد ورفض مشاركة الأردن فيه عام 1955 ودعمهم المتواصل للقضية الفلسطينية.
ومع إعلان الأحكام العرفية عام 1957 ومنع العمل الحزبي والسياسي، تم البدء بضرب العمل النقابي وتهميشه وكان العمل داخل النقابات يتم في الخفاء دون إعلان منتسبيها عن خلفياتهم الفكرية والحزبية، مما أدى الى ضعف قدرات هذه النقابات وتأثيرها، وأصبحت أجسام اجتماعية مهمشة ولا تمثل منتسبيها، وكانت الضربة القاضية للعمل النقابي مع بدء برنامج التصحيح والتكيف الذي فرضه صندوق النقد الدولي على الأردن عام 1989، فقد بدأت حينها السلطة في وضع يدها على النقابات وإبعادها عن أي دور وطني تقدمه لكي لا تشكل عائق في وجه السلطة لما كانت تنوي القيام به من خصخصة للقطاع العام وتفكيك المؤسسات الوطنية.
ولأن الطبقة العاملة هي الأكثر تهميشاً وتأثراً بالنهج الاقتصادي كان يجب على الدولة تفريغ هذه النقابات من عمقها النضالي والوطني، لهذا سيطرت على النقابات العمالية وأصبحت تتحكم بها كما تريد. وليس هناك دليل أبلغ على ضعف أداء النقابات في أيامنا هذه، من عدد المنتسبين القليل جداً في هذه النقابات، ووجود 37 نقابة ممثلة للعمال بينما هناك 52 نقابة ممثلة لأصحاب العمل، وما شهدناه على مدار العام الماضي خلال جائحة كورونا من انحياز السلطة الحاكمة لأصحاب رؤوس الأموال وتهميشها للطبقة الأكثر فقراً وتضرراً وهم العمال، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على طبيعة الدولة كأداة للعنف والسيطرة الطبقية، والتي تعني بالتالي أنها أداة في يد أصحاب الشركات وكبار المستثمرين.
في قراءة سريعة للمشهد نجد أن عمل النقابات والحركات العمالية، لا ينفصل عن العمل السياسي فكلاهما مرتبط بالآخر، فقبل عام1989 عندما كان النشاط السياسي ممنوع كان يتم التعبير عن المشهد السياسي عبر المنابر النقابية، وفي عام 2011 عندما كان دور النقابات في تراجع على مدار السنوات الأخيرة، أعاد الزخم الشعبي للربيع العربي نفث الروح في الحركات العمالية والنقابية، وقد شهدنا محلياً تأسيس النقابات العمالية المستقلة كنوع من الأجسام الجديدة، التي تشكل بديلاً عن الأجسام النقابية القديمة التي عانت من التهميش وإفقادها زخمها الشعبي أولاً، ومن ثم السيطرة عليها وهضمها من قبل الدولة ثانياً. لذا نجد أنه ومع اندلاع الحراك الشعبي في الأردن وما رافقه من حركات عمالية، شهد خلالها الأردن نضالات خاضتها الطبقة العاملة في الأردن أجبرت السلطة الحاكمة على الاستماع لهم، والاستجابة لبعض مطالبهم، وكان أبرز هذه التحركات الإضرابات التي نفذها عمال الموانئ، وعمال الكهرباء، وعمال المياومة على مدار أشهر طويلة.
وكما قلنا أن السلطات قامت سابقاً بتفريغ العمل النقابي من مضمونه الثوري وبعده النضالي، واليوم تقوم الدول الرأسمالية وأجهزتها بتهميش النضالات والتضحيات التي قدمتها الطبقة العاملة على مدار عشرات السنوات في مواجهتها للرأسمالية المتوحشة، والتي كانت في الأساس السبب في وجود هذا اليوم كعطلة رسمية، فبعد أن كان الأول من أيار يوم تناضل فيه الطبقة العاملة من أجل حقوقها وتخليد لذكرى من سبقهم في التضحيات نجد اليوم محاولة تمييع لهذه الذكرى، ليخرج لنا أصحاب الشركات وهم يقدمون الورود لعمالهم باليد اليمنى بينما يضعون اليد اليسرى في جيب العامل ليسرقوا ما في جيبه، ويخرج لنا رؤساء الدول والحكام يقدمون للعمال رسائل التهنئة والتبريك في عيدهم وكأنهم يتناسون أنهم المسؤولين عن بؤس أولئك العمال وتهميشهم.
وفي الخاتمة لو نظرنا إلى عيد العمال وهو يوم عطلة رسمية تم إقراره تخليداً لنضالات العمال وتضحياتهم، نجد أن أكثرية من هم على رأس عملهم في هذا اليوم هم من العمال، فبينما يعاني العامل في يوم عيده في ظروف عمل غير إنسانية وتعاني نساء الطبقة العاملة من عمل منزلي غير مأجور، ينعم أرباب العمل براحة الإجازة.