في ذكرى هبّة نيسان … هل كان هناك إصلاح؟
في الخامس عشر من نيسان عام 1989 قرر مجلس الوزراء الأردني برئاسة زيد الرفاعي رفع أسعار العديد من المواد والسلع الأساسية لسد عجز الموازنة وزيادة واردات خزينة الدولة، ونتيجة لهذا القرار بدأت أحداث ما يسمى ب “هبّة نيسان” التي انطلقت من مدينة معان في السابع عشر من الشهر ذاته، وهو الحدث الذي شكل نقطة فارقة في المشهد السياسي الأردني، استعاد الأردنيين على أثره الحياة السياسية بعد أكثر من ثلاث عقود تم مصادرتها من قبل السلطة الحاكمة بعد الإطاحة بحكومة سليمان النابلسي عام 1957 وما تبعها من أحكام عرفية وتعطيل للحياة السياسية والدستورية والبدء في مرحلة الاعتقالات والمضايقات ومنع العمل الحزبي وشيطنة من ينخرطون فيه.
وإذا كان قرار رفع أسعار السلع الذي اتخذته حكومة زيد الرفاعي السبب الرئيسي والشرارة التي أدت إلى اندلاع الهبّة، إلّا أنّه لم يكن السبب الوحيد وكان هنالك العديد من الضغوطات السياسية والاجتماعية التي أرهقت المواطن على مدى ثلاث عقود مثل إيقاف الحياة البرلمانية والعمل بالأحكام العرفية وارتفاع نسب البطالة والفقر، ومع منتصف الثمانينيات وتبني حكومة الرفاعي النهج النيوليبرالي في إدارة الاقتصاد لمواجهة الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تراجع أسعار النفط عالمياً وما رافقه من انخفاض لسعر صرف الدينار الأردني، حيث تم تبني وتدشين النهج النيوليبرالي بتوقيع أول اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وكانت هذه الركيزة الأولى لما تبعها من اتفاقيات أرهقت الاقتصاد الأردني.
وبالتالي مع أن الدافع الرئيسي للإحتجاجات كان اقتصادي إنما لم يغب عن الاحتجاجات البعد السياسي للمشهد، حيث كانت من أبرز مطالب الهبّة إلغاء الأحكام العرفية وإعادة الحياة السياسية للبلاد وإطلاق الحريات العامة، وبعد عدة أيام واجه فيها النظام الهبّة في البداية بتشويه صورتها وإلصاقها بصفات التخريب، والشغب، والعنف، علما بأن السلطة هي التي جابهت التحركات الاحتجاجية عبر استخدام أدوات العنف بشكل واضح والذي نرى دلالاته في البطش الجسدي، وما رافقه وتبعه من اعتقالات للمتظاهرين، إلا أن هذه الاحتجاجات قامت بإجبار النظام على تقديم تنازلات واسعة كاستجابة لمطالب المحتجّين التي كان أهمها إعادة الحياة البرلمانية وإجراء انتخابات شاركت فيها جميع القوى السياسية التي أفرزت المجلس الحادي عشر الذي يعتبره الكثيرون من أفضل المجالس وأكثرهم تمثيلاً آخر ثلاثة عقود، ومن أبرز إنجازاته إعادة الحياة السياسية في البلاد وتجميد الأحكام العرفية وتفعيل العمل الحزبي.
وكما ذكرت سابقاً أن الدافع الرئيسي لهذه الاحتجاجات كان اقتصادي، إلا أن ما تم انجازه هي إصلاحات سياسية، دون أي تغيير في النهج النيوليبرالي التي تبنته حكومة الرفاعي لإدارة الاقتصاد والاستمرار بذات النهج والمضي به قدماً، ولم يمضي إلا أربعة سنوات على التحول الديموقراطي التي فرضته هبّة نيسان، عندما قام النظام بالانقلاب على مكتسبات الهبّة وحل مجلس النواب الحادي عشر وتعديل قانون الانتخاب بما يناسب توجهات السلطة ويخدم أجنداتها والبدء في مرحلة جديدة من التضييق على العمل السياسي والإعلامي مما ساعدها على المضي باتفاقية السلام مع الاحتلال الصهيوني التي كانت المحطة الأهم في إكمال مشوار التبعية والارتهان على المستويين السياسي والاقتصادي.
إذا نظرنا إلى هبة نيسان وما تلاها على مدار ثلاثة عقود من احتجاجات شعبية واسعة كان يتحرك بها الشارع الاردني لأسباب اقتصادية مباشرة وتراكمات سياسية واجتماعية، نجد أن السلطة الحاكمة في الأردن كانت دائماً تقوم بالتحايل على المطالب الشعبية المتعلقة بتحسين الظروف الاقتصادية وتقديم وعود فارغة دون أي إصلاح حقيقي، ورغم أن جميع التحركات الاحتجاجية الكبرى في هذه العقود الثلاث كانت تطالب في التغيير على الصعيدين السياسي والاقتصادي لكن النتائج الملموسة كانت في تردي وتراجع على جميع الأصعدة، وفي كل مرة يخرج بها الناس الى الشارع للاحتجاج يقوم النظام تحت ضغط الاحتجاجات في الإعلان عن إصلاحات متمثلة في أوراق سياسية وانتخابات نيابية مبكرة أو تغيير شخص رئيس الوزراء لتفريغ غضب الشارع دون إحداث أو السير في تغيير جذري في بنية النظام أو نهجه الاقتصادي والسياسي.
وفي قراءة بسيطة نجد اليوم الحالة الاقتصادية أسوء بكثير مما كانت عليه قبيل هبّة نيسان فمعدل الفقر في ارتفاع مستمر، وتوسع الفجوة الطبقية في المجتمع الأردني عبر التوزيع غير العادل للثروة وتركيز المال والسلطة في طبقة أقليّة واحدة، وعدم قدرة الدولة على استيعاب المزيد من الأيدي العاملة في مؤسساتها، وانخفاض حاد في فرص العمل في الدول الأجنبية بشكل عام والدول الخليجية بشكل خاص مما أدى إلى معدلات غير مسبوقة للبطالة، بالإضافة إلى أن الجانب السياسي في تدهور مستمر وما مارسه النظام في العامين الأخيرين من استدعاء المدعي العام لأمين عام حزب الوحدة الشعبية على خلفية مقال كتبه، وحل نقابة المعلمين التي انتزع المعلمون شرعيتها عبر نضال استمر لسنوات، وهي الجسم الاجتماعي الممثل لأكبر كتلة شعبية على مستوى الوطن، وأيضاً السعي لحل حزب الشراكة والإنقاذ، وأخيراً وليس آخراً استغلالها لقانون الدفاع في ظل الجائحة لقمع وإجهاض أي حدث سياسي، وهذا يعيد المشهد لما قبل هبّة نيسان والديمقراطية المزيفة التي تتغنى بها السلطة قولاً وتمارس فعلاً جميع ما تملك من أساليب التضييق والقمع.
وفي الختام، وفي ظل الظروف التي ذكرت سابقاً ومع التعديلات الدستورية التي حصلت في نهاية المجلس السابع عشر التي أنتجت حكومات منزوعة الولاية العامة، وتدهور الوضع الاقتصادي والسياسي، وانسحاب الدولة من واجباتها على رأسها التعليم والصحة، وتضاعف نسب البطالة والفقر، وغياب أي خطة واضحة للسير في عملية إصلاح من قبل السلطة الحاكمة، هل ما زالت أسباب اندلاع هبة نيسان حاضرة؟