باسل الأعرج في ذكراه الرابعة.. “المثقف المشتبك” مات واقفًا.. والذكرى باقية
كان فجر السادس من آذار من العام 2017 يومًا غير عادي في فلسطين حين قامت قوة عسكرية “اسرائيلية” باقتحام مدينة البيرة وسط الضفة الغربية، ومحاصرة أحد المنازل المتواضعة في المدينة، والذي كان يتحصن به الشاب الفلسطيني المطارد باسل الأعرج، وقامت بقصفه بصواريخ “النيرجا” الشهيرة؛ ما أدى إلى استشهاده بعد اشتباك مع القوة المحاصرة استمرت لبعض الوقت.
تعتبر حالة باسل الأعرج الذي أُطلق عليه لقب “المثقف المشتبك” من أبرز حالات المطاردين الذين برزوا قبل عملية الاستشهاد حيث احتجز أولًا في سجن بيتونيا لنحو عشرة أشهر هو وأربعة من رفاقه الذين اضربوا عن الطعام لمدة 14 يومًا، ومن ثم أُخلي سبيلهم فأُعتقل الأربعة فورًا من قبل قوات الاحتلال، وامضوا في السجون “الاسرائيلية” مدة سنة، وبعضهم عاد إلى السجون مرة أخرى، لكن باسل رفض تسليم نفسه “للإسرائيليين” فتحول إلى مطاردٍ اختفى عن الأنظار، وظلت قوات الاحتلال تداهم منزل عائلته في قرية الولجة إلى الشمال الغربي من بيت لحم مرارًا منذ شهر تشرين أول من عام 2016 إلى أن أُعلان عن استشهاده.
تعرّض والده وأشقائه إلى الاضطهاد “الاسرائيلي” والضغط المتواصل من أجل أن يسلّم باسل نفسه، لكن والده كان يبلّغ المخابرات “الاسرائيلية” أنه لا يعرف عن ابنه أية معلومات؛ ليصبح رمزًا للمقاومة، ولفئة المثقفين المشتبكين بحسب ما يقول العديد من النشطاء الفلسطينيين الذين عرفوه عن كثب فهو مقاوم وثائر فلسطيني، ناشط، مثقّف، باحث وصيدلي متخرج من إحدى الجامعات المصرية، واشتهر بكتاباته، وتنظيره للثورة والمقاومة.
لم تقتصر مساحة الاهتمام بمسيرة باسل وثقافته وتمسكه بوطنه كاملًا – بدون أي نقصان بحسب ما كان يقول دوما: “فلسطين هي ببحرها ونهرها كاملة بدون أي نقصان، واذا ما تمكنا حتى من استعادة الجولان فلن نقول لا، لأننا الفلاحين دائما نطمع للزيادة”- بل إن الوصية التي وجدت في المنزل الذي تحصن به احتلت مساحة هامة أيضًا، وجاء في هذه الوصية: “تحية العروبة والوطن والتحرير، أما بعد إن كنت تقرأ هذا، فهذا يعني أنّي قد مت، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء”.
ويضيف: “لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت، وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة، ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة”.
ويتابع: “وأنا الآن أسير إلى أن الاقي حتفي راضياً مقتنعاً، وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم أما نحن أهل القبور لا نبحث إلا عن رحمة الله”.
كما إنّ قضية استمرار محاكمة باسل ورفاقه في محكمة فلسطينية رغم استشهاده ووجودهم في السجن أحتلت أيضًا مساحة كبيرة في عقول المواطنين، وتحولت إلى رأي عام، الأمر الذي جعل المستوى السياسي الفلسطيني يتدخل مضطرًا ويلغي تلك المحاكمة بعد احتجاجات واسعة عليها، وتعرض خلالها المحتجين للضرب.
يذكر أن قوات الاحتلال احتجزت جثمان الشهيد باسل الأعرج لمدة عشرة أيام، ومن ثم قامت بتسليمه ليجري تشييعه في مسقط رأسه بموكب مهيب، شارك فيه على الأقل 20 ألف مشارك قدموا من كل حدبٍ وصوبٍ من قرى ومدن ومخيمات فلسطين التاريخية كافة، إذ وصلوا “الولجة” التي حولتها قوات الاحتلال إلى ثكنة عسكرية.
سار المشيعون في شوارعها بموازاة جدار الفصل العنصري الذي قسّم أراضيها بطولها وعرضها؛ ليقدموا بعض الوفاء لباسل الذي سقط واقفًا في مواجهة الهجمة الاستعمارية على فلسطين، كما كان يحلو له الوصف، ولعلّ مشهد والده الذي كان مرفوعًا على الأكتاف ليلقي تحية عسكرية اتقناها بكل اقتدار لدرجة أنّ المشاركين اعتقدوا أنه كان عسكريًا في زمانه، وهو ليس كذلك.
وامتلأت العديد من الجدران في مدن فلسطين، ومخيماتها، وقراها – من بينها الناصرة وحيفا وبيت لحم ورام الله والخليل- بجداريات لها معنى كبير تحكي قصة باسل، واستبساله.
وكتب في رثاء باسل الكثير الكثير من النصوص، التي عكست مكانة وقيمة نضاله ومواقفه الثابتة التي عكسها بجدارة وقدرة وجرأة لا يمكن وصفها، وانشأ صديقه الدكتور خالد عودة الله يقول: “سلام عليك يا باسل، يا زعترًا بريًا يخضرّ ويزرقّ، يا صبارنا الأبدي، يا نجم سهيل في ليل الحائرين، يا خنجر سليمان يفقأ قلب المستعمرين، يا دقات القلب مكتومة في الكمين، سلام عليك يا نحيب أم الشهيد في ليل الشتاء الطويل، يا عين الحنية التي لاتنام، ويا حنين الولجة إلى الولجة، يا صهيل الخيل في مراحها الفسيح، سلام عليك يا كرامة زيتونة البدوي، تعض القيظ وتسقي، يا وفاء القصب، سلام عليك يا دروب البلاد إلى البلاد، يا لسعات مدفع غسان كنفاني ، يا حنظلة ناجي العلي يدير ظهره للدنيا ويستقبل فلسطين، سلام عليك يا رعشة الحور مبللالًا بالدم القاني، سلام عليك يا وجعنا الباقي، سلام عليك إلى أن نلقاك كما لقيناك مطرزًا بالشظايا موشومًا بالرصاص، سلام عليك يا بياض النوارس على مآذن يافا، يا عباءة القسام تلوذ بها حيفا، يا مزاج سلواد العنيد”.
ورغم مرور عامين على استشهاده، إلا أنه مازال يبادر المئات إلى كتابة تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي يستذكرونه، ويحيون ذكراه على طريقتهم الخاصة، فمنهم من كتب مواقف للشهيد شاهدوها عن قرب، ومنهم من انشأ شعارات تعبر عن مكانته، وما ميز هذه التعليلقات شمولها من الناحية الجغرافيا: من غزة جنوبًا وحتى حيفا والناصرة وعكا في الشمال ومواقع الشتات الفلسطينيكافة، بل هناك الكثير من المعلقين كانوا من دول عربية مختلفة.
وكتبت هناء فياض عن ذلك الضابط “الاسرائيلي” الذي تحدث لوالده قائلا : “قبل ما تشوف صورة الجثة عشان تتعرّف عليها لازم تكون فاهم إنها بتختلف حالياً عن صورته دائماً، وممكن تكون مشوهة بفعل الرصاص والشظايا” فقال أبو السعيد للضابط بعد المعاينة: “الله يرضى عليه، عمري ما شفته أحلى من اليوم”
أما الناشط راني سلامة فكتب يقول مرفقا نص وصيته: “إن كُنت تقرأ هذا فهذا يعني أَنّي قد مِتُّ، وقد صَعدت الرّوح إلى خالقها” .
وكتب سعد هادي يقول: “في مثل هذه اللحظات، بدأ العد العكسي، ضباع اليمام على بعد ساعات من مكمن النيص المطارد، ستنام رام الله بعد قليل، و تبقى عيون ذئب الولجة متيقظة حذرة تترقب خفافيش الغدر القادمة، مخلب من الكارلو و أنياب من “الأم 16″ تشحذ لتصلي الغزاة القادمين حميم الثأر المقدس”.
وأضاف: “بعد ساعات، سيوقّع العاشق الصادق بالدم والأشلاء، خاتمة الصفحة الأخيرة من سيرة المجد، باحثًا، مثقفًا، مؤرخًا، ناشطًا، متظاهرًا، مقاتلًا بالحجر والكلمة، صلبًا، عنيدًا، مطاردًا، أسيرًا، مطاردًا فشهيدًا صنديدًا مشتبكًا حتى الرصاصة الأخيرة، حيًّا كالنيص، مقاتلًا كالبرغوث، راحلًا كالعظماء، مكللًا بالمجد، والسؤدد والشرف”.
وتابع : “كتب ومجلات وروايات انهت مهمتها، وصية وجيزة بليغة عميقة مركونة في جانب الغرفة، كوفية تعلن النفير على كتف المقاتل، و سدة تقابل الباب ستستحيل خندقًا ومتراسًا تنفجر رصاصًا في وجه الأوغاد الذين سيخفضون رؤوسهم هلعًا من صليات أبي سليمان، سدة ضيقة ستتسع بإذن ربها ملئ السماء والأرض، ليعرج الأعرج منها إلى الجنة باسلًا، مقبلًا، مخلصًا مطرزًا بالشظايا موشومًا بالرصاص”.
وختم: “ساعات ويحل الفجر، فجر السادس من آذار، سيمتزج فيه صوت الأذان بأزيز الرصاص ودوي القنابل، غير أنّ شمس رام الله التي اعتادت أنّ تصافح وجه الباسل في نهاية كل ليلة رباط، ستشرق اليوم باردة شاحبة ترسل أشعتها لتقتبس نورًا من خيوط الدم وفوارغ الرصاص التي تملئ أركان منزل في ضواحي المدينة، تفوح منه رائحة البارود، و تأمه الحشود لتطوف في أركانه، باحثة عن أجوبتها، كما أوصاها ذو الصوت المجلجل في المدى”: “وجدت أجوبتي، فلتبحثوا أنتم، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟!”.