في ذكرى ميلاد قائد الثورة الكوبية؛ سأحدثكم عن تجربتي الخاصة مع كاسترو..
كاسترو.. جماليات الثورة بكل تجلياتها!
أو.. عندما قادني القدر، لتتقاطع طريقي في لحظة فارقة، مع كاسترو في الجزائر..
الوقت؛ منتصف السبعينات، ولم أعد أذكر السنة بالتحديد، ولكن الفصل كان شتاء، وشتاء مدينة وهران الساحلية لطيف ودافئ نسبيًا، وشمسها غالبًا ما تنسل حانية ناعمة من بين سحبه المتهادية الخفيضة!
المكان؛ الحرم الجامعي في ضاحية السينيا الجامعية، في الهواء الطلق، تلتف ثلة من الطلبة حول ملعب متواضع لكرة السلة، بينما فريقان من الأصدقاء يقيمان مباراة ودية عادية!
توقف الجميع فجأة.. نعم فقد ظهر بالقرب من الملعب الكوماندان فيديل كاسترو بقامته الشاهقة ولباسة العسكري الأخضر يسير نحو الملعب ممسكا بيد الرئيس هواري بومدين، بجبهته الواسعة ووقاره المعهود، ويضع على كتفيه عباءة مغاربية سوداء واسعة، يرافقهم ثلة قليلة من المرافقين!
توقف اللعب أمام دهشة المفاجأة، وخفف الجميع الخطى، بحماس عفوي نحو الضيوف المفاجئين. أشار عليهم كاسترو بيده وحركات من رأسه لأن يعودوا إلى الملعب، حيّا الجمع برشاقة وبصوت عال.. خلع سترته العسكرية وبيريه الرأس، وضعهما على مقعد اسمنتي على حافة الملعب، واستأذن من اللاعبين أن يشاركهم اللعب!
سخن الجو، تقاطر عشرات الطلبة من بعيد لمشاهدة مباراة نادرة لم يشاهدوا يومًا مثيلًا لها.. توزع الفريقان على طرفي الرقعة الإسفلتية، وبدأ تبادل الكرة بشكل سريع وحماسي، ربع ساعة من اللعب الرجولي، لا مجاملات ولا هدايا مجانية، ضجت الجموع بالتصفيق والصفير كلما كان الكومندان يمرر كرة جميلة أو يسجل سلّة.. حتى الرئيس بومدين تخلى عن وقارة، وبدأ يتحرك على جانب الملعب ويشجع بلهجته الجزائرية الحادة، ويشارك الجميع بالتصفيق والتلويح!
توقف اللعب، وسار الضيفان في المقدمة تبعهم الجمع بتظاهرة عفوية حاشدة إلى كافتيريا الحي الجامعي، أخذ الجميع ما تيسر من مقاعد متوفرة صُفت على عجل على أطراف القاعة، بينما افترش الآخرون الأرض الباردة بعد أن دسوا تحتهم كتبًا وحقائب وملابس زائدة.
وقف الرئيسان أمام المهرجان العفوي الذي تشكل على عجل.. أشار بومدين لكاسترو بالتقدم والكلام.. بدت هامتة مرتفعة، تحدث بالإسبانية مع الترجمة المرافقة لحوالي نصف ساعة، سرد تجربة كوبا باختصار، نوه إلى الحصار الأمريكي، والتحديات الكبيرة التي تواجه الشعب الكوبي وصموده، ثم أطال الحديث حول تجربة الجزائر، وأثنى عليها بشدة، واعتبر ثورة الشعب الجزائري ملهمة وقائدة لحركة التحرر العالمي، وقال:
لولا احتضان الجزائر لقوى التحرر والحرية من فيتنام إلى فلسطين وتشيلي مرورًا بأمريكا اللاتينية وأفريقيا، لما شهدنا صعود هذا التيار الجارف للاستقلال الوطني!
بدا وجه كاسترو متوهجًا، مخلصًا، كانت الكلمات تتدفق بقوة ودفء، وظهرت قطرات التعرق تنز من جبينه، وتنساب على رقبته، أنهى مداخلته وسط حماس الطلاب الذين تبادلوا الأهازيج والهتاف.. تراجع خلف بومدين وشكره، وتركه ليتكلم. لم يتقدم الرئيس الجزائري.. أصر على الوقوف إلى جانب ضيفه ممسكًا بيده!
رحب بـ”الرفيق الكبير”، وحيّا، وقال بأن كوبا كانت وما تزال المثال الملهم للتحدي والصمود والوفاء والعطاء، رغم الحصار وضيق الحال، فهم يساعدون شعوبًا أكثر منهم ثراء ورفاهية “ولن أضيف على كلام الكومندان الكثير، هو ليس ضيفًا، فهو صاحب بلاد وشريك في التجربة!”
هذه اللحظات القصيرة الساحرة طبعت نفسها بشدة على عدد كبير من الحضور طيلة حياتهم.
*من مفكرتي الجزائرية