النيل في المشروع الصهيوني (الحلقة الثانية)
استمراراً لرؤية مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هيرتزل، عَمِل الكيان الصهيوني على الإهتمام بنهر النيل وحوضه منذ تأسيسه عام 1948، وتعززت لدى دوائره الأمنية – الاستراتيجية أهمية القارة الإفريقية كعمق حيوي لمشروعه الاستعماري، وبشكل رئيسي شرق القارة الإفريقية وبلدان حوض النيل التي تمتد من أوغندا وإثيوبيا جنوباً، مروراً بالصومال وإرتريا وجيبوتي والسودان وصولاً إلى مصر شمالاً، لما تمثله من أهمية استراتيجية – حيوية مركبة لأمن الكيان ووجوده، وفي مقدمة أسباب هذا الاهتمام، الموقع الجغرافي الذي تحتله هذه البلدان، وهي المحاذية للساحل الغربي للبحر الأحمر والمطلة بشكل مباشرة على مضيق باب المندب في الجنوب، ومضيق خليج العقبة في الشمال وجزر تيران وصنافير المسيطرة على مدخله، إضافة إلى الخليج المؤدي لقناة السويس التي تصل البحر الأحمر بالأبيض المتوسط، وثانياً؛ ما تكتنزه أراضيها من ثروات طبيعية من اليورانيوم، والذهب، والنحاس، والبلاتين، والبوتاس، والزنك، والفضة والغاز الطبيعي، والمساحات الشاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة غير المستغلة، وأخيراً، نهر النيل ومنابعه، وما يمثله من عصب لحياة عشرات الملايين في بلدان حوضه، إضافة إلى كونه مصدراً للطاقة المائية لسد الاحتياجات المتنامية من مياه الشرب والري وتوليد الطاقة الكهربائية قليلة الكلفة.
نجح الكيان الصهيوني في تحقيق اختراقات مهمة في العديد من بلدان القارة الإفريقية، وبشكل رئيسي في شرق افريقيا ودول حوض النيل، وساعده على ذلك تفكك الموقف الإفريقي الموحد الذي كان يقف الى جانب القضية الفلسطينية والقضايا العربية بشكل عام خلال الحقبة الناصرية، وتحول العديد من الدول الأفريقية لتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني واعترافها به، بفعل مسارين، الأول، هو تهالك وتفتت الموقف الرسمي العربي والتخلي التدريجي عن القضية المركزية للأمة العربية؛ قضية فلسطين، وتطبيع العديد من الأنظمة العربية علاقاتها مع الكيان الصهيوني، والمسار الثاني جسدته جهود التغلغل والاختراق الصهيوني للعديد من هذه البلدان، مستفيداً من الصراعات الداخلية والإقلمية التي عاشتها وتعيشها بعض هذه الدول، إلى جانب ضعف بناها التحتية وتخلفها التكنولوجي، ما وفر الفرص والمنافذ التي اقتنصها العدو الصهيوني، فتقدم بعروض الدعم العسكري واللوجستي والتقني، كما حدث مع إثيوبيا في صراعها مع جبهة التحرير الإريترية خلال حرب استقلال إرتريا، التي كانت تحظى بدعم عربي في حقبة الستينيات، لا بل أن إرتريا كانت تصنف كإحدى الدول العربية بسبب أصول غالبية سكانها التي تعود للجزيرة العربية واستخدام اللغة العربية لغة رسمية فيها إلى جانب التيغرينية، والتي اخترقتها “إسرائيل” أيضاً وتحديداً منذ عام 1993 عندما دشنت علاقات ديبلوماسية مع حكومتها برئاسة أسياس أفورقي.
تنوعت أهداف الكيان الصهيوني من وراء ذلك الاختراق لإفريقيا؛ فمنها ما هو اقتصادي سعيًا وراء ثروات القارة السمراء الخام مثل الماس والذهب والنفط واليورانيوم وغيرها؛ فالكيان الصهيوني هو الدولة الأولى في مجال إعادة تصدير الماس المُعاد صقله وتصنيعه، كما أنه بحاجة إلى مادة اليورانيوم لاستمرار تشغيل مفاعل ديمونة النووي، لكن، ومع أهمية ذلك، فعلى رأس أهداف الاختراق الصهيوني لشرق افريقيا ودولها، تقف منابع نهر النيل ومساره، الذي يمثل أهمية استراتيجية للكيان الصهيوني، ليس فقط كمصدر لمياه الشرب والري وتوليد الطاقة، بل كعنصر ضغط وابتزاز جيوسياسي لخدمة المشروع الصهيوني وتوسيع دائرة نفوذه، فنهر النيل يوفر لمصر 55.5 مليار متر مكعب من الماء سنوياً، ما يمثل 79% من مجمل مواردها المائية، ويغطي 95% من احتياجاتها المائية الراهنة، فيما بلغت حصة السودان التي يوفرها نهر النيل 18.5 مليار متر مكعب من الماء سنوياً يستخدم جله في ري الأراضي الزراعية، وكان توجه السودان لمضاعفة المساحة المرورية منها، وفي ضوء تقليص التدفقات المائية سيحرم السودان من ذلك، وستكون مادة ابتزاز سياسي – اقتصادي سيستخدمها الكيان الصهيوني دون تردد في فرض التطبيع الكامل معه من قبل الحكومة السودانية .
لقد عزز الكيان الصهيوني تعاونه العسكري والاقتصادي مع إثيوبيا خلال العقود الست الماضية، وعمل على تنفيذ عدد كبير من المشروعات المائية، فقد شاركت “إسرائيل” في بناء 25 من أصل 37 سداً داخلياً نفذتها أثيوبيا.
من المهم الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الإثيوبي السابق (2012 – 2018) “هايلي مريان ديسالين” الذي قطع سد النهضة شوطاً كبيراً في عهده، هو صديق حميم للكيان الصهيوني، وكان يعمل قبيل توليه رئاسة الوزراء الأثيوبية، عام ٢٠١٢، مهندساً في فرع شركة (سوليل بونيه) الاسرائيلية في أديس أبابا، وهي شركة متخصصة في بناء السدود وتعبيد الطرق وإقامة القواعد الجوية والموانئ. كما أن مهمة إدارة وتوزيع ونقل الكهرباء المتوقع توليدها من سد النهضة أوكلت أيضاً لشركة اسرائيلية، وهذا يعني تحكم هذه الشركة بانتاج ونقل وتوزيع الكهرباء المتولدة من تدفق المياه من السد، وتحديد كميات التدفق المائي المسموح به إلى كل من مصر والسودان.
هذه الحقائق ليست مصادفات معزولة، بل حلقات في سلسلة مترابطة من الاختراق والنفوذ الصهيوني في بلدان حوض النيل. إذا ما عرفنا المخاطر المحدقة بمصر، في حال نُفذت تخفيضات التدفق المائي حسب ما أعلنت الحكومة الأثيوبية، فإن حصة مصر المائية ستعاني نقصاً يتراوح بين 15 – 20 مليار متر مكعب سنوياً، ما يعني حدوث كارثة تؤدي إلى فقدان 3 ملايين فدان من الأراضي الزراعية وتشريد 6 ملايين مزارع مصري، كما سيؤدي إلى انخفاض مستوى بحيرة ناصر وما يترتب على ذلك من جفاف وتخفيض انتاج الطاقة الكهربائية. كل ذلك يقع في صلب استهداف الأمن القومي المصري والعربي. (يتبع في الحلقة التالية).