ملامح التعسّف والاستيلاء على حقوق العمال .. من الفقر إلى الإفقار
يعتبر الفقر منأهم المؤشرات المعتمدة في الحكم على الاختلال الهيكلي للاقتصاد الوطني في جميع الدول ويمتد ذلك إلى التشوهات السياسية والاجتماعية للدولة التي يرتفع فيها مستوى ونسبة الفقر بين السكان. ويعتمد قياس الفقر على مجموعة من المعايير المحلية والدوليةالتي تميز بين الفقير والغني مثل دخل الفرد والأسرة وإنفاق الأسرة والخدمات التي تقدم للمواطنين وبرامج الحماية الاجتماعية وحجم البطالة، والبعض يقيس الفقر باعتماد عدد السعرات الحرارية التي يحصل عليها الفرد، ولكن هذا المقياس الأخير لا يعطي مؤشرًا كافيًا لمستوى الفقر في المجتمع إذ يعتبر الفقراء هم أولئك الذين لا يحصلون على كمية الغذاء المناسب أو ما يطلقون عليه الفقر المدقع مع العلم بأن الحاجات الأساسية للفرد والأسرة لا تقتصر على الغذاء وحده خاصة احتياجاته الحياتية في العصر الحديث.
يعاني المجتمع الأردني من حالة جليّة وحجم ليس بسيط في أعداد المواطنين الذين تنطبق عليهم سمات ومؤشرات الفقر المختلفة بنوعيه المطلق والمدقع، وحتى يومنا هذا لم تفصح الحكومة عن حجم الفقر ونسبة الفقراء من بين عدد المواطنين الأردنيين وما زالت الاحصاءات طي الكتمان في أدراج دائرة الاحصاءات العامة ووزارة التخطيط،ربما كونها تمثل خبرًا صادمًاللمجتمع الأردني وفشلًا لحكومة رفعت شعار النهضة، لطالما طمأنت المواطنيين بالإصلاح وتحسين مستوياتهم المعيشية وحل المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد الأردني، وقد أضفى تصريح رئيس الوزراء في نيسان العام 2019 حيرة وتساؤلًا مشروعًا، من أين جاء بإحصائية نسبة الفقر المطلق في الأردن بقوله إنها تمثل 15.7%؟ ولا شك في أن هذا الرقم تجميلي وليس واقعي،وهو أقل من الاعتراف الرسمي بأن نسبة البطالة لنفس العام تمثل 19.7% من القوى العاملة.ثم من هم الفقراء الذين تمثلهم هذه النسبة؟ بمعنى ما هو المقياس أو المؤشر المعتمد في قياس نسبة الفقر المطلق؟ فإذا كان المؤشر خط الفقر فمن الأجدر بالحكومة الإفصاح الصريح عن مقدار الدخل الذي يحدد خط الفقر بعد مضي أكثر منعشر سنواتعلى آخر إعلان عنه حتى يُستنتج على أساسه نسبة من هم يعيشون تحت خط الفقر، وقد أعلن مدير صندوق المعونة الوطني أن حد الفقر في الأردن عند 100 دينار للفرد و650 دينار للأسرة، علمًا بأن 6% من العاملين دخلهم الشهري أقل من 200 دينار و60% دخلهم الشهري أقل من 400 دينار، وأن 75% من الأردنيين يتقاضون راتبًا يقل عن 500 دينار بحسب تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة جمانة غنيمات في أيلول 2018، وحسب بيانات مؤسسة الضمان الاجتماعي فإن 66.2% من المشتركين في الضمان وعددهم الكلي 1.317 مليون عامل (منهم 690 ألف عامل من عمال القطاع الخاص) دخلهم أقل من 500 دينار، وعلمًا بأن الاحصاءات الرسمية للعام 2018 أشارت إلى أن متوسطالدخل السنوي لجميع الأردنيين4200 دينار؛ أي 350 دينار شهريًا أي تحت 50% من خط الفقر ومتوسط إنفاق الأسر الأردنية 833 دينار شهريًا وأن ثلثي الأسر الأردنية يقل إنفاقها عن هذا الرقم،والسبب في ذلك الفرق يكمن في حجم البطالة الذي يزيد عن 20% من القادرين على العملوالانخفاض الجائر في الأجور والرواتب والعمالة غير المنظمة التي تعادل 48% من حجم القوى العاملة، مقابل الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات وضعف الخدمات المجانية وبرامج الحماية الاجتماعية.
جاءت جائحة الكورونا التي انتشرت في جميع دول العالم لتكشف شيئًا فشيئًا حجم مشكلات وتشوهات اقتصاديات الكثير من الدول، خاصة تلك الدول التي تفتقرإلى قاعدة إنتاجية متينة تقود الاقتصاد الوطني وتستوعب القوى العاملة وتمتص الحالات الاستثنائية والهزّات الطارئة وأية نتائح غير متوقعة، فتلجأ تلك الدول إلى معالجة المشكلة وقت أو بعد حدوثها بقرارات عشوائية قد تصيب وقد تخطئ. وبالتأكيد فإن المتضررين من تلك الحالة هم جماهير العمال والفلاحين وصغار التجار ومزوّدي الخدمات وأصحاب الدخول المتدنية إضافةإلى المتعطلين عن العمل، وهؤلاء وغيرهم من فئات المجتمع هم الأشد حاجة لدور الدولة لحمايتهم من الآثار السلبية للأزمات، الأمر الذي يتوجبعلى الدولة أن يكون لديها فكر وخطة لمواجهة الحالات الطارئة المتوقعة وغير المتوقعة. وهذه الخطة لا تقتصر على المحافظة صحة المواطن رغم أهميتها وأولويتها بل يجب أن تمتد وتتوسع لتشمل كل جوانب حياته وبالأخص حياته المعيشية المرتبطة بتعزيز قدراته المادية والمالية وتأمينه بالخدمات الضرورية التي لا يستطيع الحصول عليها دون تدخل الدولة. ويأتي هنا دور موازنة الدولة والمؤسسات المالية والنقدية الرسمية التي يجب أن لا تبقى على الحياد بحجج وتبريرات غير مقنعة بغض النظر عن ضعف المخصصات المالية لتمويل حالة كانت موجودة قبل الأزمة أو العجز في الموازنة أو انخفاض الإيرادات العامة. أما أن يتم معاجة الوضع من جيب المواطن ومن خلال الخفض المتعمّد لدخله فهذا كمن يطفئ النار بصب الزيت عليها. إذ إن كارثة الجوع والفقر خطيرةبل تتجاوز حد خطورة الكوارث الطبيعية والصحية، وهنا على الدولة عند اتخاذ قرار معين لمواجهة أزمة ما أن لا تلجأ إلى فكرة أن الدولة هي الجهة الوحيدة صاحبة الفكر البنّاء، وهي الحريصة وحدها على معيشة المواطنين وهي وحدها القادرة على اتخاذ القرار المناسب والصائب بل أن للدولة شركاء يمثلون مصالح الدولة ومصالحهم خاصة ممثلي الفئات المتضررة كالنقابات المهنية والعمالية وأصحاب العمل والأحزاب السياسيىة والخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين والسلطة التشريعية المنتخبة ومجالس البلديات وغيرهم من الشركاء الذين يجب ان يفتح معهم الحوار والاستفادة من أفكارهم وارائهم واقتراحاتهم قبل اتخاذ القرار, وهذه الجهات قد تريح الدولة وتحمل عنها أعباء كثيرة وكبيرة مادية ومالية وتعفيها من الكثير من المهام بما في ذلك ضبط الانفلات والفوضى والسلوك غير الصحي وبالتالي التخفيف من عبء العسكرة والأمننة ومساعدة المتضررين وتلبية الحاجات وتقديم الخدمات للمواطنين.
إن ما اتخذته الحكومة من تفعيل العمل بقانون الدفاع لم يكن بأقل الحدود كما ذُكر، علمًا بأن الحالة الصحية في الأردن لا تحتاج إلى ذلك، إذ إن القوانين السارية وخاصة قانون العقوبات وقانون الصحة وقانون العمل كفيلة وحدها لضبط الوضع، أما أن يتم تعطيل بعض بنود قانون العمل في غير صالح العمال فهذا نوع من التعسّف ومصادرة لحقوقهم المكتسبة وبالتحديد في اقتطاع نسبة من الأجور والرواتب والعلاوات والبدلات بما يخالف القانون والاتفاقيات الدولية. وأبرز القرارات ما جاء في أمر الدفاع رقم 6 وما تبعه من البلاغات القاسية على العمال والمنحازة كليًا لأصحاب الأعمال خاصة الشركات الكبيرة الذين منحهم الأمر تخفيض أجور العمال بنسبة تتراوح بين 30% للعمال الذين هم على رأس عملهم ويقومون بواجباتهم كالمعتاد إلى نسبة 100% للذين تم تسريحهم من العمل والذين تعرضوا للفصل التعسفي بحجج وهمية وخاصة عمال المياومة واليوميات والعاملين بدون عقود وغير المشتركين في الضمان الاجتماعي، بل حتى المشتركون في الضمان فقد أجاز أمر الدفاع لأصحاب الأعمال عدم تحمل أجورهم كاملة وإنما يتم منحهم 20% من الراتب على أن يمنح العامل 30% من راتبه من رصيده الادخاري الخاص بالتعطل عن العمل بحيث لا يقل مجموع راتبه عن 150 دينار،حيث أجاز أمر الدفاع منح العامل 50% من راتبه مع عدم التزام أصحاب الأعمال بمستوى الحد الأدنى للأجورالمقرر قانونًا بمبلغ 220 دينار(من المقرر أن يرتفع إلى 260 دينار في بداية العام القادم 2021)،حتى أن أمر الدفاع قد تطاول على أجر العمل الإضافي مخالفًا للقانون الذي حدد أجر ساعة العمل الإضافي بنسبة 150% من أجر الساعة العادية ليخفضها إلى نسبة 125% ووصل الأمر أن يتدخل في الإجازات السنوية للعامل بحيث تم حسم 50% من الإجازات السنوية للعام 2020.
أما عمال وموظفي القطاع العام فلم يسلموا من خفض رواتبهم من خلال وقف العلاوات والمكافآت والبدلات حتى نهاية العام الحالي 2020، بل أن أصحاب الدخول المحدودة والعاطلين عن العمل والأسر الفقيرة لم يعودوا يحصلون على مقدار الدعم المقرر في الموازنة وخاصة دعم الخبز الذي ما زال منقطعًا منذ بداية العام الحالي.
كل ذلك يأتي في خضم حالة الفقر التي تعاني منها الأسر الأردنية بسبب انخفاض دخولها وانعدامها لدى البعض قبل أزمة الكورونا لينتقل الكثير من تلك الأسر من حالة الفقر المطلق إلى حالة الفقر المدقع نتيجةً لإجراءات وقرارات غير عقلانية كان يجب أن تكون في صالح الفقراء والعمال والموظفين لكنها أدت إلى مزيد من إفقارهم. أما القرارات التي تعتبر إيجابية فهي أيضًا بحاجة إلى دراسة وتحليل، فمبلغ الدعم النقدي الذي تم منحه لأرباب الأسرالمتعطلين عن العمل والذي تراوح بين 50 إلى 136 دينار والمقرر على ثلاث دفعات لم يستفيد منه جميع المتعطلين، إذ أن بعض الأسر ولي أمرها غير متعطل عن العمل أو متقاعد بينما عدد من أبنائه تعطلوا ولم يحصلوا على الدعم والبعض لم يتمكنوا من الدخول إلى المنصة، والبعض وعدوا بالدعم ولم يحصلون عليه علمًا بأن مصدر هذا الدعم من صندوق همة وطن الذي ساهمت فيه الموازنة بمبلغ 27 مليون دينار فقط. كذلك فإنضخ السيولة من قبل البنك المركزي (سيولة في السوق وقروض للشركات عن طريق البنوك التجارية بدون فائدة) فقد استفادت منها الشركات الكبيرة التي تتعامل مع بنكها، وهذه السيولة قد تؤدي إلى حل مشكلة الانتاج والعرض لكنها لا تفيد الطلب من قبل المستهلكين الذين انخفضت قدراتهم الشرائية إلا بمقدار ما خصص منها لدفع الأجور، فالأساس في السيولة استخدامها في السوق على شكل طلب، إذ أن زيادة العرض مع انخفاض أو ثبات الطلب يؤدي إلى خلق الكساد وبالتالي انخفاض الأرباح.
ألا يخطر في بال الحكومة ومستشاريها حجم الضرر الذي تلحقه هذه القرارات بإيرادات الدولة (خزينة وموازنة)، فبالإضافةإلى العجز في موازنة 2020 المقرر وقدره1247 مليون دينار فإن انخفاض الدخول أو انعدامها وبالتالي انخفاض النفقات سوف يؤدي تلقائيًا إلى انخفاض الإيرادات العامة وخاصة تلك التي مصدرها الضريبة غير المباشرة (ضريبة المبيعات) إضافةإلى الكثير من الرسوم والإيجارات وهذا ينطبق أيضًا على وقف أو تخفيض الدعم، فالعمال والموظفين وأصحاب الدخول المحدودة تصل نسبة الميل الحدي للاستهلاك لديهمإلى 100% فأكثر بينما الميل الحدي للادخار يقارب الصفر فأقل. وهذا الأمر سيزيد من الانتكاسة المتوقعة لنسبة النمو الذي كان متوقعًا أن يصل إلى 2% بينما من المتوقع أن ينقلب إلى انكماش بما لا يقل عن 5%. وهذه الحالة لا تقتصر على العام الحالي بل ستمتد آثارها إلى العام القادم وربما الذي يليه وهذا ضمن ما يقع تحت عنوان (عدم اليقين). فمن المتوقع استنادًا إلى حالة الضعف الشديد في الأمن الوظيفي وانعدامه لدى بعض الأعمال وتسريح الكثير من العمال بعقود وبغير عقود وعمال المياومة وعمال التشغيل الذاتي فإنه من المتوقع أن يفقد 60- 80 ألف عامل وظائفهم بالإضافةإلى عودة أعداد كبيرة من العمالة الأردنية في الخارج.لذلك فإن المطلوب وقف العمل بأوامر الدفاع وملحقاتها الخاصة بالعمال والموظفين والعودة إلى تفعيل المواد التي تم إيقافها من قانون العمل ورفع الحظر عن الأنشطة الاقتصادية التي ما زالت معطلة والسماح بالحركة والعمل في ساعات ما بعد منتصف الليل. أما فيما يتعلق بتنشيط الإنتاج والطلب الكلي وما دام الأردن يتبع النهج الرأسمالي الحر وفق أفكار رائده اللورد جون كينز الداعي إلى التدخل الحكومي في الاقتصاد فإن على الحكومة خفض الضرائب وتشغيل العاطلين عن العمل بأية أعمال حتى لو لم تكن منتجة، إذ أن الهدف تحويلهم إلى مستهلكين بذاتهم وليس نيابة عن غيرهم من أجل زيادة الانفاق العام، وبالتالي زيادة الإنتاج الذي يطلب مزيدًا من العمال للوصول إلى حالة التشغيل الكامل.