النيل في المشروع الصهيوني (الحلقة الأولى)
شكل “نهر النيل” عنصراً حيوياً في رؤية تيودور هيرتزل، الأب الروحي والمؤسس للحركة الصهيونية، وهو الذي عمل على فكرة توطين اليهود في شبه جزيرة سيناء والعريش وتحويل مياه نهر النيل مصدراً للري وتطوير الزراعة فيها، لتكون موطئ قدم لانتقال اليهود واستيطانهم في فلسطين وتأسيس “دولة اليهود”، التي تحولت إلى هدف الحركة الصهيونية الرئيسي كما حدده برنامج مؤتمر الحركة الصهيونية الأول في بازل عام 1897 “..
إن هدف الصهيونية هو أن يتحقق للشعب اليهودي وطن في فلسطين..”، وهو الهدف الذي رسمه هيرتزل وأورده في كتابه “دولة اليهود” عام 1895، حيث قال “.. أما فلسطين فهي وطننا التاريخي الذي لن ينسى أبداً، إن اسم فلسطين وحده سيجتذب شعبنا إليها بقوة ذات فعالية رائعة..” . وضمن مسعاه لتحقيق هدفه هذا، قام هيرتزل بزيارة القاهرة إبان سيطرة الاستعمار الإنجليزي على مصر في 23 آذار1903، وحينها أحاط المهمة التي جاء من أجلها بالسرية، فحرص عند قدومه إلى مصر على متن السفينة النمساوية “سمير أميس” أن يدرج اسمه في آخر قائمة مسافري الدرجة الثالثة. كان هدف زيارته، المتابعة المباشرة لتوفير شروط ومقدمات إقامة “الدولة اليهودية”، ودراسة الظروف والواقع الميداني الذي توصلت له “البعثة المتخصصة” التي كان أرسلها سابقاً إلى مصر لهذا الغرض، والمشكلة من مهندسين ومختصين زراعيين للمعاينة الميدانية وتقصي السبل المتاحة لتأمين مياه النيل وتغذية مشروع الحركة الصهيونية الاستيطاني.
بعد عقد المؤتمرات الصهيونية الثلاث على التوالي في الأعوام 1897، 1898، و1899 في بازل، انتقل هرتزل لعقد المؤتمر الرابع في لندن في شهر آب من عام 1900، وهذا الانتقال إلى لندن لم يكن شكلياً، بل نتيجة لتطورات جيوسياسية إقليمية ودولية، حسمت ملامح المشروع في عقل هرتزل، وبناءً عليها، حدد المنطقة الجغرافية التي يسعى لها لتأسيس “دولة اليهود” بشبه جزيرة سينا، متخلياً عن الخيارات الجغرافية الأخرى في الأرجنتين وأوغندا، لتكون سيناء منصة الانتقال إلى فلسطين الملاصقة، واستقر لهرتزل أن ما يخدم مشروعه، تعزيز تحالفه الاستراتيجي مع بريطانيا، التي عَوَلَ عليها وعلى نفوذها ومصالحاها في تحقيق حلمه، فبريطانيا القوة الاستعمارية المهيمنة على مصر شكلت الرافعة الأقدر على حمل المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني وتوفير شروط نجاحه ضمن مناطق نفوذها الإمبراطورية الاستعمارية في حينه.
لم يكتف هرتزل بتوفير الدعم من القوة الإمبراطورية الأكبر في حينه لصالح مشروعه، بل عَمِلَ على بناء أركان القوة والأدوات الذاتية للحركة الصهيونية، الضرورية لاستمرار وترسيخ مشروع الحركة الصهيونية، من بناء “حركة عالمية” تجمع وتمثل يهود العالم، إلى تأسيس “صندوق قومي” يهودي لتمويل الاستيطان. (يتبع في العدد القادم)