لم تغادرنا كورونا بعد.. ولكن تداعياتها باتت حاضرة بقوة!
ما نعيشه بعد كورونا، هو تحول في ممارسة المؤسسات لدورها، مع ما يرافق ذلك من تراجع في حالة الحريات الشخصية والعامة، وبروز أدوار أكثر تأثيرًا للسلطة والقوة.
بالطبع يتذبذب أداء الحكومات في تعاطيها مع هامش الحريات، مع وصول كل رئيس مكلف، وهذا الجانب مرتبط غالبًا مع المرجعية الأيدلوجية والسلوك الشخصي لكل رئيس حكومة جديد، ودرجة ارتباطه بمراكز رأس المال.. وعندما يكون هذا الرئيس منتميًا إلى أوساط الليبرال الجديد، والقطاع المصرفي، ومتناغمًا مع المؤسسات البنكية الدولية، يتحول بالكامل إلى التصرف، وكأن القوانين التي يجب أن تحكم البلد، هي قوانين الاقتصاد، وأن الملف الاقتصادي له الأولوية القصوى على ما عاداه، وأكبر وأهم من باقي الملفات وحاجات الناس. ولتسريع التحولات الاجتماعية بما يليق بملفه، فهو يريد أن يترك ليطلق يده في هذا المجال دون “معيقات مُعطلة”!وتقول التجربة المحلية والدولية، بأن هذا الأسلوب يفشل في الغالب، ويؤدي إلى نتائج كارثية. فالاقتصاد لوحده لا يمثل الطريقة التي يبني فيها المجتمع علاقاته البينية وإنتاج حاجاته المادية والمعنوية، الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. هنا الحكومة تتحرز على الملفات الاقتصادية المالية، وتترك باقي الملفات المتعلقة بالسياسة والأحزاب والنقابات، للتعامل معها كملفات أمنية، لتبقيها تحت السيطرة والرقابة، هذا الأسلوب يقود بالضرورة إلى تفشي عدم العدالة، وإلى تفقير وحرمان الأكثرية، وتمركز الثروة بيد الأقلية.
هذا النموذج من الحكم الذي ينادي بقطع الاقتصاد عن السياسة يتسبب بمشاكل كبيرة داخل المجتمع، ويعزز الحكم الفردي، ويكرس حالة من العنف الفكري والسياسي في المجتمع، وبين شرائح الطبقة الحاكمة، ويعرقل البحث عن حلول إيجابية لمعظم المشاكل.
دور الاقتصاد هو شكل من إنتاج الثروة، ومهمة السياسة هو آلية توزيع هذه الثروة، وتنظيم الحقوق المتبادلة بين الأفراد والجماعات. عدم المساواة التي تتأتى من الاقتصاد ستلقي بظلها وبؤسها على المجتمع، وتعكس نفسها على شكل عدم مساواة وعنف واستقطاب مجتمعي بين القطب الاقتصادي المتحكم والقطب الاجتماعي السياسي المُغيب والمُحتجز في الملف الأمني، حيث يتم رهن إدارة البناء الديموقراطي بين أيدي بؤر غير مهيئة، تقودنا في الغالب إلى تغييب عمل المؤسسات، ودور الرقابة المجتمعية على الأداء الحكومي، وتكريس عدم المساولة وتفشي الفساد المالي والسياسي.
تنشأ حالة من العنف المعيشي، حيث يترك المواطن يواجه النهب وابتزاز البنوك، وتفرض عليه آليات مالية لا تتناسب مع خياراته ووضعه كالاشتراك الإجباري بالضمان، وفتح محفظة إلكترونية، الأمر الذي يؤدي إلى سحقه معنويًا، وتبديد عمله الذي يعتاش منه، الأمر الذي يقود إلى تدني مستواه المعيشي وصولًا إلى طرده من مسكنه ومكان عمله.
نظرًا للظروف الاستثنائية المفروضة بسبب الجائحة، فإن هذا العنف يُمارس بقوة القانون، حيث يتم غلق جميع قنوات الفعل والتعبير تحت طائلة الملاحقة الأمنية والقضائية. يجري تغييب أي شكل من أشكال الحياة الاجتماعية – السياسية، ويحل مكانها شكل مقيت من عنف الدولة، وتسويقه كعنف شرعي وحيد مسموح بممارسته.
في الوضع الطبيعي، تتدخل قوة القانون لضمان الحقوق المتبادلة بين أفراد المجتمع، ولكن هنا فهي تتدخل لتحقيق امتيازات للطبقة الحاكمة ضد الآخرين، وتدخلها هنا يتم بشكل أكثر اتساعًا وعنفًا، مما يؤدي إلى تجريم الرأي المعارض، وجعله باهظ التكاليف للشخص والجاعات، وعلى المستويين الأمني والمعنوي.
تحكم الحكومة القبض على ملفات الاقتصاد، بينما تطلق للجهاز الأمني والقضائي التدخل السافر في الانشطة المجتمعية والسياسية الأخرى، ويتم تعويد المجتمع على نمط من السياسة القمعية، تبدأ بالاستفراد بهذا المواطن أو ذلك وبهذا الحزب أو ذاك، من خلال شيطنة الآخر، وتجريده من كيانه الحر ومكانته المعنوية، لردع الآخرين، وتقييد إرادة فعلهم، وإحباط مشاعر تضامنهم.
تسود دعاية ممنهجة تسعى إلى تحويل الضحية إلى متهم؛ من يمرض بالوباء فهذا ما جناه على نفسه ويستحق التشهير به. الفقير، هذا خطأه.. شكل من الاستبداد والتنميط، كامن في جوهر الفكر الليبرالي الجديد واستعجاله في إطلاق يده لرسم صورة المجتمع الذي يريد.
التزم الجميع بوعي وانضباط وقت الحجر، وهي كانت خطوة صحيحة وضرورية، ولكن هناك في السلطة التنفيذية وأذرعها من يحاول الآن أن يرسم نموذج مجتمعي مسيطر عليه، حيث الكل يراقب الكل والمؤسسات الرسمية تراقب الجميع، وتفرض عليهم أسلوب حياتهم في كل مظاهرها.
رقابة تتمدد لتدخل كل بيت ومؤسسة وفي جيب المواطن ودماغه، منتقدة لحرية الفكر والمعتقد، تمهيدًا لإدخال المجتمع في منظومة معلوماتية صناعية محلية، ملحقة عالميًا.
لقد مررنا بمرحلة نجحوا فيها بفرض أشكال كثيرة في السيطرة والرقابة، وفي تقنين حجم الحريات بأشكالها، من برلمانية وحزبية، ونقابية، ومجتمعية، وهم يحاولون الآن توظيف ذلك ليتقدموا خطوات إضافية للسيطرة على ما تبقى لنا من مساحة رأي وفعل، بعد أن جمدوا أو كادوا، كل المؤسسات الرقابية والتشريعية والرأي في البلاد، ونقلت مهامها إلى مجال سلطتهم، ويتم قلب طبيعة النظام الديموقراطي، إلى نظام أحادي تحتكر فيه السلطة التنفيذية كل السلطات.
وهنا تطرح أسئلة: لماذا لا يتم تفعيل دور البرلمان؟ لماذا لا يتم محاورة الاحزاب السياسية؟ لماذا لا يسمح للنقابات المهنية بتصويب أوضاعها واجراء انتخاباتها المستحقة؟ لا يجب ترك السلطة التنفيذية تصادر إرادة الشعب، وتخالف الدستور.
هناك إنحراف سلطوي وتكريس لحكم استبدادي شمولي. يجب التحذير من هذا قبل تفاقم الأمور، وتتحول الإجراءات الطارئة الحالية، إلى سياسة دائمة، وعلى الجميع أن يرفع صوته، خاصة ونحن نواجه تحديات داخلية وخارجية خطيرة وحاسمة، والبلد الحر يصنعه المواطن الحر.