الأزمة المصرفية اللبنانية
تجتاح لبنان أزمة اقتصادية هي الأسوأ والأخطر منذ الحرب ألأهلية تضاف إلى أزمات أخرى متراكمة شهدها الاقتصاد اللبناني في التاريخ الحديث وخاصةموجات التضخم الجامح خلال الأعوام 1982- 1992
بدأت الأزمة الحالية بعد موجة الاحتجاجات الشعبية المطلبية والتي أدت إلى استقالة الحكومة والتباطؤ في تشكيل حكومة تكنوقراط بعيدا عن المحاصصة الطائفية مما حدا بأصحاب رؤوس الأمول الكبيرة بتحويل عدة مليارات من أموالهم بالعملة الصعبة إلى خارج لبنان لتتخذ المصارف اجراءات مشددة على سحب الأموال المودعة وأغلقت أبوابها بسبب الطلب المتزايد على السيولة من جميع المودعين.
ان ما دعى المواطنون الى سحب مدخراتهم من المصارف هو ما يطلق عليه بعدم اليقين واعتقادهم بان الاحتفاظ بأموالهم في المنازل أكثر أمانا من بقائها في المصارف حيث تم سحب 10 مليار دولار في فترة وجيزة، علما بأن موجودات المصارف اللبنانية تعادل 230 مليار دولار امريكي وهو ما يساوي أربعة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني (30 مليار دولار لأشخاص طبيعيين ومعنويين سوريين)
مقدمات الأزمة المصرفية
تعتبر الأزمة نتيجة لتراكمات من اجراءات السياسة المالية والنقدية التي تمثل فقاعات سرعان ما تنفجر لسبب او لآخر، فقد مثلت الأزمة المصرفية الوجه الجلي للازمات السياسية والمالية والنقدية وبالتالي الأزمة المعيشية التي طالت ألغالبية العظمى من فئات المجتمع. ومن تلك المقدمات:
1- العجز المتراكم في الموازنة العامة، فقد قدرت الايرادات المحلية في موازنة 2019 بمبلغ 12.46مليار دولار بينما قدرت النفقات بمبلغ 16.985 مليار دولار بعجز قدره 4.525 مليار دولار (العجز المقدر للعام 2020 بمبلغ 4.372 مليار دولار)
2- السياسة الضريبية، حيث قدرت موازنة 2020 الايرادات الضريبيىة بمبلغ 9,96 مليار دولار أي بنسبة 79% منمجموع الايرادات المقدرة بـ 12.61 مليار. وقد أقدمت الحكومة على فرض ضرائب جديدة خلال فترة الاحتجاجات منها ضريبة دخل على رواتب العسكريين وحسم 1.5% من رواتب التقاعد العسكري واضافة رسم 2% على البضائع المستوردة.
3- حجم الدين العام، اذ بلغ الدين العام بمختلف أنواعه رقما فلكيا وهو من أعلى نسب الدين بين دول العالم، فقد وصل الى مبلغ 92 مليار دولار وهو ما يعادل أكثر من 150% من الناتج المحلي الاجمالي بينما بلغت اقساط فوائد الدين مبلغ 5.514 مليار دولار.
4- العجز في ميزان المدفوعات.بالرغم من حجم التدفقات المالية والتحويلات الخارجية التي يعتمد عليها الاقتصاد اللبناني إلا أن ميزان المدفوعات يسجل عجزا قدره مليار دولار شهريا وهذا ما يؤدي الى امتصاص مدخرات المودعين بالعملات الأجنبية وخفض رصيد مصرف لبنان ووزارة المالية واحتياطي المصارف التجارية.
5- ضعف القطاعات الانتاجية التي تخلق القيمة المضافة وتقلل المستوردات وتزيد الصادرات وتقلل من حجم البطالة اضافة الى دورها في خلق أعمال جديدة، فالاقتصاد اللبناني يوصف بأنه اقتصاد الريع المالي والعقاري بينما القطاعات الانتاجية لا تزيد مساهمتها في الناتج المحلي الاجمالي عن 8%.
6- الفساد والتهرب الضريبي. بالكاد يحصل المواطن على حقوقه وحصوله على الخدمة دون اضطراره لدفع رشوة ما لمقدم الخدمة،وحل لبنان في المرتبة138 من بين 180 دولة على سلم مدركات الفساد حسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية، وحسب رأي بعض الخبراء فان الا قتصاد اللبناني يخسر سنويا 2 مليار دولار امريكي بسبب الفساد وان التهرب الضريبي يزيد على 1.5 مليار دولار اضافة الى 1.5 مليار دولار تدفعها الدولة الى مؤسسة كهرباء لبنان بسب سرقات الكهرباء،هذا اضافة الى التهرب الجمركي المطلق والنسبي والفساد في التسجيل العقاري.
7- ضعف حالة ضمان الودائع، حيث تضمن مؤسسة ضمان الودائع التعويض للمودعين في حالة افلاس البنك حسب القانون، وفي لبنان فان المؤسسة تضمن الودائع لغاية 5 مليون ليرة لبنانية فقط ولا يمكن ضمان أموال جميع المودعين كون العملية تخص كامل القطاع المصرفي وهذا ما جعل كبار ومتوسطي المودعين من افراد وشركات يعتقدون ان اموالهم غير محمية بالقانون وقد تحولت لمجرد رصيد وكشف حساب بلا حق في امتلاكها.
أمام هذه الحالة وتلك الحراكات كان يجب على الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان والبنوك التجارية اتخاذ قرارات اقتصادية ومالية ونقدية اصلاحية لطمأنة اصحاب الاموال المودعة والمحوّلة وأصحاب الرواتب وكذلك الراغبين بالاقتراض، إلا أن ماحصل من قرارات واجراءات اتخذها مصرف لبنان وأصحاب المصارف قد شدّ الخناق عليهم وأزّم الحالة وأربك حالة الأسواق والتجارة الخارجية وخلقت حزمة من الازمات في وجه الحكومة الجديدة وبداية السنة المالية 2020 منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار بما يزيد عن 30% حتى نهاية العام 2019، إذ أن السوق اللبناني يتعامل بالدولار الى جانب الليرة اللبنانية بسعر صرف رسمي ثابت بمبلغ 1515 ليرة مقابل الدولار الواحد، ليصبح الدولار بين ليلة وضحاها يزيد عن 2400 ليرة وهذا السعر كان بداية في صالح من يمتلك الدولار وليس في مصلحة المواطن الذي يتعامل بالليرة اللبنانية وكذلك يلحق ضررا كبيرا بالتاجر الذي يشتري بضائعه بالدولار (غير المتوفر) ويبيعها بالليرة اللبنانية.
2- لجأت البنوك الى تقييد مبالغ سحب الودائع، حتى ان بعض البنوك قد قيدت السحب بما لا يزيد عن 200 دولار اسبوعيا وعمدت على وقف العمل بالبطاقات المصرفية بما في ذلك التعامل بالبطاقات خارج لبنان، وأمام ضغط بعض المودعين لجأت بعضالبنوك الى منحهم شيكات مصرفية (شيك بانكير) بتواريخ مؤجلة للحصول على أموالهم خارج المصارف مما اضطرهم الى بيعها قبل موعد استحقاقها (تكييش) بأقل من 30% من قيمتها الحقيقية.
3- ارتفاع أسعار السلع والخدمات إلى أكثر من 50% حيث أصبحت الأسعار تحدد يوما بيوم بل ساعة بساعة وزادت مطالبات التجار ببيع بضائعهم بالعملات الأجنبية،
4- انخفاض الرواتب والأجور والدخول الأخرى بالليرة اللبنانية حيث قدّر انخفاض الحد الأدنى للأجور من 450 دولار إلى 260 دولار ومع اغلاق البنوك تعذر على الكثيرين من الحصول على أجورهم.
5- انخفاض ثقة البلدان المانحة بالسلطة المالية اللبنانية والنظام النقدي بعد انخفاض التصنيف الائتماني للمصارف اللبنانية حسب وكالة ستاندرز اند بورز من B- الى CCC ثم إلى CC وقد ظهر ذلك بتراجع المشاركين في مؤتمر (سيدر) المنعقد في العاصمة الفرنسية باريس في نيسان 2018 والذين تعهدوا بمنح لبنان قروض ميسرة بمبلغ 12 مليار دولار لمدة خمس سنوات وهبات بمبلغ 860 مليون دولار مقابل تعهد الحكومة اللبنانية باصلاحات داخلية واقامة مشاريع اقتصادية اجتماعية وتطبيق مبادئ المساءلة.
6- تخلف الحكومة اللبنانية عن سداد استحقاق سندات الـ (يوروبوند) بقيمة 1.2 مليار دولار والتي تمتلك المصارف 50% منها ومصرف لبنان 11% و39% لمستثمرين أجانب.
وما أن أطلت على لبنان السنة المالية 2020 حتى واجهته وعلى حين غرة ازمة أخرى ناتجة عن تفشي وباء كورونا وأثره على الاقتصادات العالمية، فقد اتخذت الحكومة اللبنانية مجموعة من الاجراءات الوقائية في التباعد الاجتماعي وحظر التجول أدت إلى تعطل اغلب الانشطة الاقتصادية بما في ذلك التجارة الخارجية والسياحة. وقد استغل اصحاب رؤوس الاموال المتنفذون في السلطة النقدية آثار هذه الجائحة في التلاعب بالعملات الصعبة وأسعار الصرف واستطاعت القوى السياسية (المعارضة لتوجهات رئيس الحكومة الجديدة ممثلة بقوى 14 آذار) بتحالفها الطبقي والطائفي وبالتواطؤ من حاكم مصرف لبنان واصحاب المصارف من تعطيل مجموعة من مشاريع القرارات االحكومية والنيابية الهادفة الى وقف تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية وارتفاع اسعار السلع والخدمات وتفعيل دور الدولة في التعامل مع أثار الكورونا على الاقتصاد والعمل والفقر، بل اوغلت في تصرفاتهاالقائمة على الفساد وسيطرتها على السلطة النقدية وقدرتها في التأثير على السوق حيث استمرت في تهريب الاموال الى الخارج بما يقارب 6 مليار دولار منذ بداية العام 2020 أغلبها من فئة الستة أصفار وأكثر، مما أدى الى فقدان الثقة بالعملة المحلية وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الصعبة حيث وصل سعر الدولار في السوق الى 4000 ليرة والتكهن بتخطيه قريبا سعر 5000 ليرة بل وتسري اشاعات بان استمرار السياسة النقدية على نفس النهج الحالي قد يصل سعر صرف الدولار الى عشرة آلاف ليرة وهذا ما يطمح اليه محتكروالملايين من العملات الصعبة خاصة بعد رفضهم لتثبيت سعر الصرف عند 3200 ليرة وترك الأمر للمصارف والصرافين في التعامل مع سوق الصرف بتغطية واضحة من مصرف لبنان المركزي الذياصدر تعليمات غريبة ألزم بموجبها البنوك والصرافين بعدم صرف الحوالات المالية الخارجية بالدولار الامريكي بل صرفها بالليرة اللبنانية لتقوم المصارف والصرافين بتسليمها لأصحابها بسعر يقل كثيرا عن سعر السوق وهذا ما أدى الى تجدد الاحتجاجات الشعبية والتظاهر رغم حالة حظر التجمعات.
يبدو أن الازمة المصرفية في لبنان أكثر تعقيدا من الأزمات الطارئة أو المرحلية أو نتيجة لقرار مالي مستندا الى تشريع قانوني بل هي متعددة الجوانب وتطال جميع فئات المجتمع ومؤسساته والمستفيد منها اصحاب المصارف والاوليغاركيا الفاسدةالمتنفذين في مصرف لبنان وداخل الحكومة وخارجها، والظاهر أن حلها يجب أن يكون سياسيا تقنيا وهو ما يجب أن تتحمله الحكومة الجديدة وتحمله على محمل الجد وبغير ذلك فان هزات اقتصادية اجتماعية سياسية عنيفة تطرق الأبواب.