“المشتركة” خيّبة الأرض المُرَّة في ذكراها
يعتبر يوم الأرض إحدى المحطات الملحميّة لمسيرة النضال الفلسطيني، و منارة مضيئة في ليل حالك لصمود الفلسطينيين داخل المنطقة المحتلة عام 1948، حيث شهدت الجماهير العربية الفلسطينية بعد قيام كيان الاحتلال عام ١٩٤٨ صدمة كبيرة ولّدت حالة من اليأس و فقدان الأمل، بل و استسلام نسبي بالتزامن مع السياسات الصهيونية الدائبة لعزل الأرض و أبنائها عن عمقها العربي، جغرافيّاً و ثقافيّاً و كفاحيّاً.
فيما بعد شكلت انتفاضة الأرض و إضرابها التاريخي جرّاء سياسات مصادرة الأراضي تحت بند «أراضي غائبين» دفقة أمل كبيرة، و محطة مركزيّة مثّلت فارقاً ورسمت خطوطاً جديدة لمسار النضال الفلسطيني، ليس فقط من خارج فلسطين او الضفة الغربية وغزة، بل من قلب كيان الاحتلال، وقدمت خلاله الجماهير الفلسطينية الشهداء والأسرى وتضحيات جسام من أجل الأرض؛أساس الصراع ومركزه.
شكّلت الأرض – جغرافيّاً و ديمغرافيّاً – مصدر قلق وتهديد دائم لوجود كيّان الاحتلال، فرغم الممارسات الحثيثة لإجتثاث أصحاب الأرض من ترابها، ما يزال الفلسطينيون مزروعون في أرضهم، و يتنامون عدداً وشهداء، مما قاد الحكومات الإسرائيلية مؤخراً نحو سن قانون القومية وإعلان يهودية الدولة، كإجراء يستهدف تلك البقيّة الباقيّة العصيّة على الإقتلاع والأسرلة.
لم تخلو صفقة ترامب – نتنياهو من بنود تعزز من استهداف الفلسطينيين داخل كيان الإحتلال، فبعدما سعى الاحتلال لتسويق نفسه دوليّاً كراعي للتعايش والتعدد القومي والديني، تعامل مع الفلسطينيين في قرى المثلث كمجاميع بشريّة تباع و تشترى، و قرر أن يهديهم للدولة الفلسطينية المسخ التي رسمتها الصفقة. قضية قرى المثلث منذ عام ١٩٧٦ في ذكرى الأرض الأولى وحتى هذه اللحظة ما زالت تشكل أزمة وعقدة بسبب كثافة السكان العرب الفلسطينيين فيها وتناميهم المتسارع بالمقارنة مع اليهود الذين يشكلون الثلث من إجمالي السكان،فالممارسات الرسمية داخل كيان الاحتلال تكشف عن وجه عنصري قبيح لم يعترف يوماً بإتفاقيات سلام و لا يؤمن بأي شكل من اشكال التعايش مع العرب، و لا يرى بحل الدولتين سقفاً لطموحاته الكولونيالية الإحلالية والتوسعية.
يصنف «المجتمع الإسرائيلي» ضمن التركيبات الإجتماعيّة المتفسخة بنيويّاً، أو المتعفنة حسب التعبير اللينيني،والمتناقضة ثقافيّاً وحضاريّاً، يقوده نظام سياسي طفيلي، وظيفته العامة إدارة الصراع ما دون الإجتماعي المتخلف و الإستفادة من تناقضاته. هذا الوصف لطبيعة النظام السياسي يمكن أن يوضح الأسباب الحقيقية لحالة «الإستعصاء الديمقراطي» الذي يمر به كيان الاحتلال منذ عام تقريباً، دون أن يستطيع انجاز انتخاباته التشريعية و فرز حكومة تمتلك الولاية العامة لتقود المرحلة، حيث تتصارع أحزابه بمختلف ألوانها ضمن سياقات عنصرية وتتوزع لتمثل مجموعات بشريّة كريهة كل منها يطمح لقدر مختلف من التطرف والشراهة الإستعمارية، و لكن يتلاقى السواد الأعظم من تلك الأحزاب على رفض فكرة الدولتين وكره العرب.
إن السياق التاريخي لقيام «إسرائيل» بالإضافة لطبيعة البنيّة الاجتماعية لها هما الأساس في طبيعة العلاقة والتعامل معها، ورغم ذلك ومع المناشدات والجهود الدؤوبة التي تقودها مؤسسات وأفراد و جمعيّات للتحذير من مغبّة الإنخراط ضمن المؤسسات الصهيونية والكنيست تحديداً، إلا أن (القائمة المشتركة) وأحزابها يصرّون على ذلك، بل إن الانتخابات الثلاث التي جرت خلال عام، لعبت خلالهم المشتركة دوراً هابطاً غير مسبوق، وقامرت بأصوات العرب الفلسطينيين على طاولة (بني غانتس) تحت شعارات ليبرالية تجد بإسقاط نتنياهو أقصى آمالها.
لم تكن تلك الدعوات والوعود الانتخابية التي سوّقتها (المشتركة) للجماهير العربية خارج دائرة الإشراف والتوجيه من سلطة التنسيق الأمني في رام الله، بل إن مكاتب أوسلو كانت تتابع وتوجه الدعم الدائم لترشيحات المشتركة وبرنامجها، محاولةً أن تقول للمجتمع الدولي أن حسم أزمة النظام السياسي الصهيوني وتشكيل حكوماته لا يمكن أن يتم إلا من خلال العرب. جهود السلطة الفلسطينية لم تكن في سبيل تحسين الأوضاع المعيشية للشعب العربي الفلسطيني في الأرض المحتلة عام ١٩٤٨، فهذه السلطة منذ أوسلو تخلت عن مسؤولياتها تجاههم، بالتزامن مع إفراغ منظمة التحرير الفلسطينية من مضمونها النضالي/الاجتماعي تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، إن كان في الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨ أو حتى تجاه الملايين في مخيمات البؤس ومختلف دول العالم، بل إن الدور الرسمي الفلسطيني تجاه اللاجئين يرقى ليكون خيّانيّاً، فدماء الشهيد عمر النايف ما زالت ماثلة على جدران سفارة السلطة في بلغاريا. تلك الجهود التي سخرتها أجهزة السلطة الفلسطينية لدعم المشاركة العربية في انتخابات الكنيست، كان الهدف الحقيقي لها، هو «الضغط» على واشنطن لإستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي وتجويد ظروفها وآفاقها، بعيداً عن الواقع المأساوي للشعب الفلسطيني والخط السياسي المنبطح الذي انتهجته السلطة على مدى ربع قرن، والذي كان المقدمة لهذا السعار الصهيو-أمريكي و تسارع سياسات ضمّ الأراضي و قتل الشعب الفلسطيني و تشريده من أرضه و محاصرته بكافة الظروف غير الإنسانية التي تسعى للنيّل من صموده.
مقامرة القائمة المشتركة بأصوات العرب الفلسطينيين على طاولة مجرم الحرب «غانتس» وتواصلها الدؤوب والسري مع «أزرق-أبيض» للمساهمة بعرقلة الانتخابات لصالح غانتس والسعي لبناء شراكة عربية- صهيونية كانت الخطيئة الأكبر منذ أول مشاركة عربية في الكنيست، حيث أن تلك الخطوة سيكون لها إرهاصات هدّامة لتضحيات شعبنا الفلسطيني، وسوف تقود لزيادة تفسخ الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الكيان، بل لربما إلى صدام وإنقسام عامودي عميق يجهض كافة المهام الوطنية و النضالية التي من المفترض أن تتحملها و تقودها الجماهير العربية في هذه المرحلة الحرجة والدقيقة من حياة الصراع العربي- الصهيوني.
يائير لبّيد، المرشح الثاني في تحالف «أزرق-أبيض» أكد أن تحالفه يريد من المشتركة أن توصي لمرة واحدة فقط للجنرال بني غانتس، في إشارة أنهم ينظرون للعرب كمجرد صوت، لا كشركاء سياسيين، و هنا نتأكد أنه لا يوجد صهيوني جيّد وصهيوني سيء، فالصهاينة سواء. بعدما أوصت المشتركة لـ غانتس وفيما بعد تكليفه بتشكيل الحكومة، ها هو غانتس ليس فقط ينقلب على العرب، بل أيضاً على حلفائه التاريخيين من الصهاينة، و يشق تحالفه ليعقد صفقة مع الليكود تسمح له أن يكون رئيساً للكنيست ونتنياهو يعود لسدرة الحكم.
في ذكرى يوم الأرض الرابعة والأَربعين، يجب على الجماهير العربية مراجعة دروس الأرض و الإستفادة منها، و يجب على الأحزاب العربية أن تتفرغ لإعادة بناء الحركة الوطنية على أسس و مبادئ بعيدة عن المؤسسات الصهيونية، فالأيام القادمة حُبلى بالكثير من المشاريع التي تستهدف الأرض، و هذا يستوجب أن يكون أبناء الأرض على أُهبة الإستعداد، كفاحيّاً و سياسيّاً.