على وقع أزمات الإقليم، يسعى إردوغان لتحويل تركيا إلى قوة إقليمية على حساب أمن ليبيا ومقدراتها
تتفاعل الأزمة الليبية منذ بداية شباط 2011 مترافقة مع إرهاصات ما أطلق عليه; “الربيع العربي”.
تسارعت الأحداث بتدخل الجامعة العربية وحلف الناتو بطائراته ومواكبة طيران إماراتي- قطري. إستهدفت وحدات الجيش الليبي، حيث نجح التحالف بإسقاط النظام واغتيال القذافي بصورة بشعة في 20 أكتوبر من نفس العام، غرقت ليبيا والمنطقة بالفوضى، وتحولت إلى قاعدة “للأصوليين وللسلفية الجهادية” وساحة للحرب الأهلية، ووقفت الدول الغربية تأجج الصراع، وتعيد ترتيب الحالة الليبية بما يوائم مصالحها.
رفض الإتحاد الإفريقي مبدأ العدوان، وطالب بدور فاعل لحل الأزمة، إقتراحه عبر خريطة طريق تدعو لوقف فوري للأعمال العدائية وإطلاق حوار بين الإطراف الليبية المتنازعة، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية. قبل بها القذافي، كما قبلت بها كل من تونس والجزائر، التي حذرت من أن هذا العدوان سيمهد عمليا إلى تفكيك البلاد وإدخالها مع كل الإقليم بحالة من العنف وعدم الإستقرار
إلا أن الأطراف الدولية الفاعلة، وكل من قطر والإمارات والسعودية ومصر، قد نجحت في تهميش الصوت الأفريقي لسنوات عدة.
تعد ليبيا من بين إحدى أغنى دول النفط في الإقليم، فجذبت أطماع الغرب والجماعات الإرهابية التي وسعت من نفوذها وصولا لتمدد “داعش” والقاعدة.. تعمق الإنقسام، ونشأ فراغ أمني، وصراع محموم على السلطة والنفوذ، يتداخل فيه الأيدلوجي الديني مع القبائلي العصبوي مع التدخل الأجنبي!
سيطرت حكومة طبرق ومجلس نوابها المنتخب عام 2014، على معظم الشرق الليبي وجزء من الوسط والجنوب عقب تبنيها للجيش الوطني الليبي، بقيادة اللواء حفتر. أما في الغرب، فقد برزت حكومة طرابلس الانتقالية، التي قامت على صيغة تحالف يضم القوى السياسية والميليشياوية ذات التوجهات الإسلامية، وأهمها الأخوان المسلمين. ولكن الحكومة خسرت انتخابات 2014،
بعد مؤتمر المصالحة في الصخيرات المغربية، تشكلت حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، حيث إعترفت بها المؤسسة الدولية العام 2016، رغم معارضات داخلية وخارجية عنيفة.
بموازاة الصراع الداخلي والانسداد السياسي، تجري على المقدرات الليبية حربا شرسة بالوكالة، حيث تشكل محورا من تركيا وقطر، يدعم “طرابلس”، بالمال والسلاح والإعلام، وبالمسلحين الفارين من سورية والعراق.
وقد ازاداد حضور تركيا في دعم الأخوان، بعد الخلاف الخليجي مع قطر، فعينت أنقرة مبعوثا خاصا لها لدى مجلس طرابلس، وشكلت خطوطها الجوية “شريان الحياة”، جسرا جويا لمصراته.
في المقابل تقدم السعودية والإمارات ومصر، دعما لوجستيا واستخباراتيا لحكومة طبرق وللجيش الليبي، كما تمارس كل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا تدخلا متشعبا في الوضع الليبي في الجانب الاستخباراتي والسيطرة النفطية.
بعد “إطمئنان” حفتر لترتيب أوضاعه شرقا وجنوبا، شن هجوماً واسعاً للسيطرة على معاقل حكومة الوفاق الوطني في العاصمة، حيث بدأ يتقدم ببطء تحت تغطية جوية.
في 27 تشرين 2 من العام الماضي، وبشكل مفاجئ، وقعت حكومة السراج إتفاقين مع تركيا على درجة كبيرة من الأهمية; نص الأول على إنشاء تعاون عسكري، تقوم من خلاله أنقرة بتشكيل قوة للتدخل السريع في ليبيا، وتغطي مهام التدريب وتوفير الأسلحة والمعدات. وإتفاق بحري، حمل مضامين إقليمية إستراتيجية، تتعلق بتحديد مجال بحري إقليمي بين البلدين، تسمح لأنقرة ببسط نفوذها على مناطق واسعة وغنية بالنفط والغاز شرق المتوسط، تعتبر محل تنازع مع اليونان ومصر وقبرص والكيان الصهيوني.
صادق البرلمان التركي على الإتفاقين، وأعلن إردوغان بأن التوقيع يعتبر إنتصارا مدويا لسياساته، يمنح تركيا دورا سياديا على مجال حيوي لمنطقة من أكثر المناطق حساسية في العالم. أدارت تركيا الحرب من خلال وكلائها في طرابلس، وبعد التوقيع، أعلن إردوغان، بأننا ” سنذهب حيث دعينا، وسنؤيد حكومة السراج التي تقاوم الجنرال الإنقلابي حفتر”!
خلال الأسابيع الأخيرة بدأت تركيا تتودد إلى كل من الجزائر وتونس على أمل توفير دعم علني لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ودعما لوجستيا لتحركاتها في المنطقة، ورغم إستقبال إردوغان في تونس بحضور السراج، إلا أن عدة أحزاب تونسية عبرت عن مخاوفها من التورط في تحالفات إقليمية تضربتقاليد الحياد في المسألة الليبية.
بقي الإتحاد بدون حراك دبلوماسي لفترة طويل، حتى تدخلت روسيا وتركيا بشكل سافر في الصراع، فدعت ألمانيا إلى إجتماع في برلين، وصرح وزير خارجيتها: “لقد آن الأوان لوضع إطار سياسي جيد.. إننا نملك مفتاح الحل، وسوف نضعه في القفل”!!
في غياب الأطراف الليبية المتنازعة وغياب الجارة تونس، حضرت معظم الدول الأوروبية والعربية التي كانت سببا أساسيا في الأزمة الليبية، وبدا واضحا بأن أوروبا تنظر إلى “الملف” الليبي من بوابة خطر تدفق المهاجرين والتنازع على الطاقة، خطر الإرهاب، ولا يهمها مطقا جانب الصراع المدني، والظروف الإنسانية المريعة.
دون مناقشة مضمون وأبعاد الأزمة الليبية، كررالمؤتمر الدعوة إلى التهدئة ووقف إطلاق النار، ووقف توريد الأسلحة لكلا طرفي النزاع، ويلاحظ بأن كل هذه النقاط سبق أن تضمنتها قرارات أممية سابقة حول ليبيا، دون أن يتم الإلتزام بأي منها، ودون وضع آليات محددة لمراقبتها وتنفيذها!!
اردوغان الذي تدخل شرقا كزعيم متوج للعالم الإسلامي ويتعدى على سيادة وأراضي أقطار بلدان عربية، وعلى وقع أزمات الإقليم يسعى لتحويل بلده إلى قوة إقليمة مسيطرة، يتوجه شرقا كمكون أساسي للناتو، لم يكن منزعجا من مؤتمر برلين، طالما أن المؤتمر لم يخرج بآلية محددة لمراقبة قراراته، ولم يقرعقوبات أمام من يخالف هذه القرارات، إضافة بأن أردوغان ما يزال يملك أوراقا للضغط في مواجهة أوروبا، بداية بالتلويح في فتح باب الهجرة إلى أوروبا، وصولا إلى التهديد الموارب بإطلاق موجة إرهاب جديدة!!
أنقرة ترسل منذ العام 2017 شحنات من الأسلحة والذخائر إلى ليبيا، تتسرب حصص منها إلى دول الساحل الأفريقي، كما ترسل مسلحين سوريين على درجة كبيرة من التدريب والوحشية، الى جبهات القتال.
خطورة التدخل التركي بأنه يأتي لينحاز عسكريا لأحد أطراف النزاع، ويعيد تشكيل ملامح الحرب الأهلية الدائرة هناك، مع خطر تحولها إلى صراع إقليمي أوسع نطاقا قد تنخرط فيه جيوش عربية وإقليمية كانت تدير الصراع عبر وكلاء وأتباع.
في الجزائر، وبعد وصول عبد المجيد تبون إلى الرئاسة، والإستقرار النسبي الذي حصل في هيئة القيادة، صرح الرئيس الجديد: بأن “الجزائر هي أول وأهم طرف معني بإستقرار ليبيا، ولن نقبل أبدا أن يبقى بلدنا بعيدا عن الحلول لهذا الملف”، وأضاف: “ليبيا تمثل العمق الإستراتيجي للأمن الإقليمي المغاربي بشكل عام والجزائري بشكل خاص”.
وقد أصبح واضحا بأنه قد بات من الصعب على الحكومة الجزائرية أن تبقي على موقفها المحايد، بعد أن تجاوزت جميع البلدان -بما فيها البعيدة- كافة المعايير الجيوسياسية، سيما الموقف التركي الفاضح الذي أعلن تدخلا عسكريا مباشرا لصالح حكومة السراج في طرابلس، مما شكل إحراجا للجيش الجزائري، وأثار مخاوف السلطات من أن يؤدي هذا التدخل إلى إشاعة عدم الإستقرار، وإنتشار الأسلحة، وتوطين المنظمات الإرهابية الأصولية التي تتحرك على طول الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو والجزائر وليبيا.
فيما بقي الموقف الجزائري ينادي بحل سياسي تفاوضي بين أطراف المعادلة الليبية بمشاركة الدول الإقليمية، وفي نفس الوقت، ترفض القيادة الجزائرية الدخول في لعبة المحاور. وتعبر عن عدم رضاها عما تسميها بالإنحرافات المصرية الإماراتية، وتعتبر بأن الإعتراف الدولي بحكومة السراج رغم هشاشته، من الممكن البناء عليه.
لا بديل عن التصدي للإرهاب بكافة أشكاله، وإبعاد التدخلات الأجنبية عن الحالة الداخلية، وإطلاق مسار سياسي تفاوضي بين المكونات المجتمعية الليبية يعزز من وحدة الدولة ودور مؤسساتها، يبدأ بوضع آلية لمراقبة وقف إطلاق النار وتوريد الأسلحة، من خلال وضع قوة دولية محايدة على الأرض، وسحب المسلحين إلى مناطقهم وتسليم أسلحتهم ودمجهم في الحياة العامة ومؤسسات الدولة بصورة قانونية سلمية.