الأردن وصفقة القرن.. ما هو المطلوب؟ / د. سعيد ذياب
دخل مصطلح صفقة القرن إلى السياسة الأمريكية ووسائل الإعلام العالمية بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض، وإعلانه في نوفمبر 2016 عن أن لديه صفقة لتسوية الصراع العربي “الإسرائيلي”.
على الرغم من التكتم الشديد على مضمون الصفقة، ومحاولته إضفاء نوع من الغموض حولها إلا أن ما تسرب منها لوسائل الإعلام، وما أعلنته الإدارة الأمريكية من مواقف، كشفت بصورة جلية أن ما تسعى له الإدارة الأمريكية هو منح الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني، ولا يزال، شرعية قانونية وتاريخية ودفعه للتسليم للواقع كما هو، أي باختصار، تصفية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وصولًا إلى إغلاق الملف كاملًا.
إن أبرز ما يميز هذه الصفقة؛ أنها جاءت لتعلن تبني الولايات المتحدة الأمريكية، الرؤية “الإسرائيلية” في حسم الصراع الفلسطيني، ابتداءً من التراجع عن الموافقة على قيام “دولة فلسطينية”، والتي كانت ضمن السياسة الأمريكية في العقدين الماضيين، مرورًا بإزاحة القدس من عملية التفاوض؛ وذلك من خلال نقل السفارة الأمريكية إليها، والاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني، وليس انتهاءً بالتحلل من التزاماتها تجاه وكالة الغوث للاجئين؛ وذلك سعيًا لضرب حق العودة، ومطالبة الدول المضيفة للاجئين بإلغاء صفة اللجوء عن الفلسطينيين.
لقد سعت الإدارة الأمريكية للاستفادة من حالة الضعف الرسمي العربي الشديد، والاحتراب الداخلي، إضافة إلى حالة الضعف الفلسطيني جراء الانقسام؛ مما سهّل انفلات الأنظمة العربية الأكثر ارتباطًا بالولايات المتحدة، من التزاماتها القومية. تلك الأنظمة التي اختلطت عليها الأولويات، بحيث حوّلت العدو الوجودي إلى حليف محتمل، فبات الجارُ عدوًا، والعدو جارًا. وبهذا؛ فقد ضربت الإدارة الأمريكية، مسألة حق العودة وملف القدس، وبقَبولها ضم المستوطنات، وبإعلان ترامب رفضه لمبدأ حل الدولتين، تكون هذه الإدارة قد قوّضت حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني قبل الإعلان عن تفاصيل الصفقة.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية تعمل على إخفاء بنود الصفقة، وتتعمّد التأجيل المتكرر لها؛ بهدف خلق البيئة السياسية الملائمة على المستوى المحلي (الفلسطيني والأردني و”الإسرائيلي”) والعربي بشكل خاص، وذلك من خلال إقناع الأطراف ببنود الصفقة الواحدة تلو الأخرى، وصولًا إلى تعبيد الطريق كاملًا امام الصفقة كما تشتهي الإدارة الأمريكية، بالتوازي مع السعي الأمريكي المحموم إلى ربط حالة عدم الاستقرار التي نعيشها على مستوى الإقليم بالدور الإيراني، وليس بانعكاسات الاحتلال “الإسرائيلي”، وحرمان الشعب الفلسطيني من نيل حريته، والوجود الأمريكي في أكثر من قطر عربي.
* الدول العربية وصفقة القرن:
تحاول الأنظمة العربية الظهور بمظهر الرافض للصفقة، وعدم قبولها، ولكن ما يجرى في الخفاء شيء آخر، يتم من خلاله إعلان القبول والتفكير بخطط التنفيذ، بل إنّ بعض هذه الأنظمة تحاول لعب دور العرّاب لتسويق الصفقة، وتحديدًا السعودية وبعض دول الخليج، حيث تمارس هذه الأنظمة ضغوطها على الفلسطينيين والأردنيين لقبول تلك الصفقة.
إن مؤشرات القبول الرسمي العربي تتبدى من خلال ممارسة تلك الأنظمة للقمع ضد الأصوات الشعبية الرافضة للصفقة من ناحية، وموجات التطبيع المتلاحقة بين الدول العربية و”إسرائيل”، سواء الزيارات الرسمية أو الفنية أو الرياضية أو حتى السياحية، بالإضافة إلى اللقاءات السرية، وهو ما يتناغم مع شروط الصفقة المتمثلة بالتطبيع العربي قبل تحقيق السّلام.
إن متابعة عملية التطبيع وحجم التجارة العربية “الإسرائيلية” تكشف عن مدى التناغم الرسمي مع الرؤية الأمريكية، المتمثلة بأولوية التطبيع على السّلام، حيث تشير الأرقام بأن حجم التجارة بين الخليج و”إسرائيل” وصل إلى حوالي مليار دولار، عن طريق طرف ثالث (الأردن أو تركيا وأحيانًا الاتحاد الأوروبي). وبلغت الصادرات “الإسرائيلية” للدول العربية نسبة (10%) من مجمل صادراتها.
هذه الصورة من التطبيع والانفتاح التجاري، تفسر حجم المشاركة العربية في مؤتمر البحرين، على الرغم من كل الضجيج الذي صاحبه، ويثبت أن ما كنا نسمعه من رفض للصفقة، لا يعدو في جوهره رفضًا لفظيًا، بل إن البعض وصف الرفض العربي توطئة للقبول.
أمام هذه الحالة الرسمية البائسة؛ فإن الرهان سيكون على رد الفعل الفلسطيني، باعتباره الجهة القادرة على فرض موقفه ورؤيته على الأجندة العربية.
* الأردن وصفقة القرن:
يعيش الأردن الشعبي والرسمي هاجس صفقة القرن بشكل كبير؛ الأمر الذي يجعل من السؤال: الأردن إلى أين؟ مشروعًا وضروريًا.
فالواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الأردن، وسياسة الضغط التي تمارس عليه؛ من خلال تراجع حجم الدعم والمساعدات الخارجية، واستهداف العمالة الأردنية في بعض دول الخليج، والتضييق عليها، يدلل على السعي الممنهج لإفقار الشعب الأردني، وزيادة معاناته؛ لإرغامه على قبول ما يخطط له.
وباعتبار أن تمرير صفقة القرن مرهون بالقبول الفلسطيني والأردني؛ فإن متابعة موقف البلدين يغدو ضروريًا لفهم اتجاهات الحركة السياسية. يبدو الموقف الرسمي الأردني هشًا وضبابيًا ومثيرًا للقلق الشعبي.
ولفهم هذا الموقف وخلفياته يغدو ضروريًا الانطلاق من مسألتين:
* المسألة الأولى: ترتبط بطبيعة النشأة والتكوين للكيان الأردني، ومن ثم الدولة الأردنية، وما فرضته عليه من دور ووظيفة تجاه الدول الإمبريالية.
* المسألة الثانية: معاهدة وادي عربة والسياق التاريخي الذي تم فيه التوقيع عليها، وما فرضته من شروط والتزامات على الأردن.
في المسألة الأولى ارتبط ظهور الكيان والحكم بدور وظيفي لخدمة القوى الاستعمارية والمشروع الصهيوني، بحيث يتحول الأردن إلى خزان كبير يستوعب المهجرين الفلسطينيين من ناحية، والدخول في تحالفات إقليمية في مواجهة المشاريع القومية واليسارية الناهضة. مقابل هذا الدور تم الالتزام بتقديم المساعدات والهبات لقاء ذلك الدور، بل وتم بناء جهاز بيروقراطي مدني وعسكري أكبر بكتير من الاحتياجات الوطنية؛ وذلك من أجل القيام بالمهمات المطلوبة منه إقليميًا.
على مدى العقود الماضية لهذه النشأة وهذا الدور، لم يبذل الحلف الطبقي الحاكم أي جهد لإعادة بناء الدولة؛ من أجل الاعتماد على الذات والتحرر من تلك التبعية، بل استمر على ذات النهج، وباتت التبعية والارتهان تتعمق في كل يوم، من خلال تنامي المديونية التي وصلت أرقامًا فلكية.
والمسألة الثانية معاهدة وادي عربة، وما تضمنته من نصوص فرضت على الأردن القبول بمبدأ توطين اللاجئين، وهو ما تم النص عليه في المادة 8 فقرة (أ) من المعاهدة، واندماج كامل بين العقبة وايلات في مجال الإدارة والأمن والجمارك، لكن التحولات في “إسرائيل” أوقفت هذه التحولات.
إن الأردن يقف اليوم أمام استحقاقات الدور الوظيفي، وشروط معاهدات وادي عربة، ويمارس عليه كل الضغوط في هذا السياق، ولعل التهديد برفض الوصاية الهاشمية على القدس لصالح
“آل سعود”، والتلويح باستبدال النخبة الوظيفية القائمة بأخرى أكثر جاهزية للقيام بالدور المطلوب للنظام، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي، هي التهديدات التي تمثل الضغوط الراهنة التي يتعرض إليها الأردن.
إن ما يجري الآن نوع من التحول في الدور، فالمسألة لم تعد مسألة حماية الحدود مع الكيان الصهيوني، بل تعدى الأمر إلى عملية تسهيل تبلور الطابع اليهودي لـ”إسرائيل”.
كل ذلك يدلل أن القلق الذي يساور الأردنيين بتحول الأردن إلى المكان الذي سيتم من خلاله عملية التوطين للاجئين؛ هو بلا شك يشكل خطرًا على الهوية الأردنية، بقدر ما هو خطر على القضية الفلسطينية.
فالصفقات تتم عادة بين طرفين لتحقيق مصالح، وعلى قاعدة رابح للطرفين، أما صفقة ترامب فهي رابح صهيوني وخاسر أردني وفلسطيني.
إن حماية الأردن وسيادته الوطنية وهويته تتطلب توحيد كل الجهود لمواجهة هذه الصفقة، وهذا من الصعب تحقيقه دون تعزيز المشاركة الشعبية، واحترام الحريات العامة، وتعزيز الوحدة الوطنية.
إن صياغة مشروع وطني أردني وفلسطيني مشترك، يأخذ على عاتقه التصدي لصفقة القرن والمشروع الصهيوني، ورسم سياسة واضحة لانجاز الاصلاح السياسي الشامل، سيكون هو المدخل للصحيح للَجم الأطماع الصهيونية، وتحرير الأردن من تبعات الدور الوظيفي الذي فرض عليه.
إن التخلص من معاهدة وادي عربة، سيطلق الطاقات الوطنية الكامنة من أجل بناء أردن وطني ديمقراطي ودعم الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية.
فالمرحلة القادمة ستكون مرحلة المواجهة لتطبيق الصفقة، بين الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني من جهة، وبين القوى الرافضة لهذه الصفقة من جهة أخرى، وما الحراك الشعبي الذي سبق وترافق مع انعقاد مؤتمر البحرين، إلا دليل على تضيع المواجهة، وتنامي الوعي لمخاطر اللحظة السياسية من ناحية، وتعمق عملية الفرز وعلى جميع المستويات بين قوى المساومة والاستسلام، وبين قوى المقاومة والممانعة التي تتصدى ببسالة للمشرع الأمريكي الصهيوني.
إن الخروج من النفق الذي وجد الأردنييون انفسهم داخله، لن يكون ممكنًا إلا بمغادرة التفكير السائد، حتى ننجح في مواجهة الظروف، وتحويل التحديات التي تواجه الأردن إلى فرص للتحرر والنهوض.
(كتب الدكتور سعيد ذياب، الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني، هذه المقالة في العدد الخامس من مجلة الهدف الرقمية، آب/أغسطس 2019. للاطلاع على العدد كاملًا، اضغط هنا)