الوطن ما بين الوطني والديني! / حاتم استانبولي
الدين هو منظومة من المفاهيم الأخلاقية والأجتماعية والإرشادية حاكت المجتمعات الإنسانية في منطقتنا لتنظيم وتحديد العلاقات المجتمعية بين أفراده وقبائله.
الدين يعطي السلطة قوة روحية غيبية تمكنها من التحكم في المجتماعت البشرية ولكي تبرر حروبها وغزواتها تحت رايات الحق الإلهي.
حيث ظهر الدين قبل ظهور الدولة الحديثة كانت الحروب والغزوات ترسل عبر القارات للسيطرة واخضاع التجمعات البشرية لسيطرة القوى الكبرى ونشأت الإمبراطوريات وشنت الحروب فقط من أجل السيطرة وكانت دائما حروب مكلفة للغازي وللمغزو وحيث أن كل الحروب والنزاعات قائمة على احتكار السلطة وتطويع المجتمعات لسلطة رأس المال فإن متطلبات تدوير رأس المال تستلزم قوى بشرية لتحويل السلعة لنقد وإعادة تدويره في السوق هذا استلزم أن يحصن رأس المال وأصحابه بقوة روحية تبرر سلوكهم وحروبهم وقتلهم وسبيهم وإخضاعهم للشعوب في خضم ذلك نشأت الظروف الموضوعية لنشوء الفكرة الدينية التي يستطيع رأس المال أن يسيطرمن خلالها على مجتمعاته الضيقة المحيطة ويبرر غزواته للمجتمعات الأخرى تحت عنوان الدين والاستحققات الغيبية ما بعد الممات. وكانت دائمًا مادته الفئات الأكثر فقرًا في المجتمعات. مع تطور المجتمعات البشرية ارتباطًا بالمكان حيث أصبح المكان له أهمية ملموسة ونشأت الثقافات والحضارات التي ارتبطت بالمكان (اليونانية والرومانية والفارسية والهندية والصينية واليابانية والمصرية وبلاد ما بين النهرين… الخ) وبدأ التعرف والتعارف على ضرورة فرض مفهوم الحدود وكانت تأخذ من العوائق الطبيعية محددًا لها متلازمًا مع تطور وسائل وأدوات الإنتاج الاقتصادي التي تتطلب سوقًا لمنتجاتها.
أثناء تطور المجتمعات البشرية وتشكل الإمبراطوريات التي خاضت حروبها لتحقيق مصالحها مغلفة بالفكرة اللاهوتية وفي مرحلة تفككها عبر الحروب الرأسمالية (آخرها الإمبراطورية العثمانية) مع تفكك الإمبراطوريات نشأت الحاجة لمفهوم الوطن المرتبط في المكان والزمان من حيث النشأة التاريخية لهذه المجتمعات.
لكي تنظم المجتمعات برزت الحاجة لنشوء الدولة وسلطتها وكانت الدولة ضرورة لرأس المال وتمركزه، الذي كان العامل الحاسم والمحرك لنشوئها، وانحسر دور الفكرة الدينية وتراجع لصالح فكرة الوطن (الدولة المدنية) وكان لنابليون دور حاسم في إخضاع السلطة الدينية إلى سلطة الدولة في أوروبا وإخراجها من دورها السياسي الشمولي وحصرها في الدور الروحي.
عندها انطلقت أوروبا في مسيرة التقدم الفكري والثقافي والإقتصادي والاجتماعي والسياسي ومن خلال ثنائية الحرب والحوار اتفقت أن الأقتصاد هو المحرك للقوة وفعاليته وتبادل منتجاته هو الذي يحدد خريطة تعارض الدول وتحالفها ونقلت صراعها لخارج حدودها الإقليمية حيث كانت دائمًا ما تصل إلى مسأومات فيما بينها على حساب مصالح شعوب المستعمرات.
أما في منطقتنا فلم تقم الدولة العربية بناء على متطلبات تطور وحاجة المجتمعات بالمعنى التاريخي وإنما بناء على متطلبات وحاجات المستعمر (سايكس – بيكو) ولهذا فإن دورها بقي محصورًا في حدود مصالح المستعمر الذي فرض بناء فوقيًا مرتبط به إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر ومع مرور الزمن كان الصراع قائمًا ما بين مصالح المجتمعات وبين شكل ودور الدولة القائم المرتبط بمصالح المستعمر المباشر أو غير المباشر ومع تعاظم أهمية منطقتنا بعد اكتشاف الطاقة وأهميتها لدول الغرب والشرق كان لا بد من إنشاء قوى داخلية وخارجية لاستمرار سيطرة رأس المال عبر مراكزه (الغربي) .
القوة الخارجية: إن الموافقة على إنشاء “دولة إسرائيل” هو حاجة رأسمالية استحضرت الفكرة الدينية لتجميع يهود العالم لإنشائها ليكون لها دور مستقبلي في استمرار تفتيت المنطقة من ناحية وملاذ آمن لرأس المال الصهيوني وهنا تقاطعت المصلحة الصهيونية مع مصالح الدول الأستعمارية.
وأما القوى الداخلية: فكان بإعادة انتاج الفكرة الدينية لمواجهة قوى التحرر الوطني على قاعدة أنها قوى ملحدة تغيب الدين لصالح الوطنية والقومية والأشتراكية.
حيث كان دورًا متناقضًا مع القوى وبعض الأنظمة التي استقلت نسبيًا عن السياسات الاستعمارية ودورًا تحالفيًا عميقًا مع الأنظمة التابعة لمركز رأس المال وتنتقل معه حين ينتقل مركزه وأخذت عدة تعبيرات؛ حزب التحرير الإسلامي، والإخوان المسلمين والوهابية التي فرخت القاعدة وبناتها وداعش وأخواتها وجميع هذه الاتجاهات تأخذ من المذهب السني مرجعية وتتنافس على أحقية تمثيله ودخلت في تنافس فيما بينها لاحتكار التمثيل الديني والدور السياسي .
أما عن المذاهب الأخرى فقد بقيت لمئات السنين منطوية تحت رايات الإسلام ولم ياخذ التعارض بينها حيزًا إلا عندما أصبح لها موقف من عملية التحرر الوطني وانخراطها بها.
على سبيل المثال فإن إيران كانت تلتزم بالمذهب الشيعي على مدار مئات السنين وفي عهد الشاه كانت السعودية ودول الخليج تقيم معها أفضل العلاقات عندما كانت إيران وكيلًا حصريًا لرأس المال في المنطقة.
عندما تغير نظامها ووقف ضد مصالح مركز رأس المال بما فيها اسرائيل تحولت الصداقة إلى عدأوة في ليلة وضحاها وأدركت دول رأس المال خطورة إيران على مصالحها الاقليمية في بعده التحرري خاصة أنه أعطى بعدًا تحرريًا للعباءة الدينية (الشيعية) بما أعلنته من مواقف حاسمة وفاعلة ضد “اسرائيل” من جهة وما يشكله ذلك على شرعية التمثيل الديني لقواها الدينية المحلية التي ارتبطت بمصالحها تاريخيًا.
إن التدقيق في دور الاتجاهات الدينية السياسية المدعومة رأسماليًا تدخل في صراع تناحري مع الدولة الوطنية في حين تنحى منحى مسالمًا وتحالفيًا مع الدولة الكمبرادورية (التابعة).
من جهة أخرى فإن موقف وسلوك دول (رأس المال) من الدين يأخذ موقفًا حاسمًا يمنع تدخل الدين في الدولة (الغربية) في حين نراه يدعم ويغذي دوره ويأجج تعارضاته في دول منطقتنا ويستخدمه في حروبه الرأسمالية ضد خصومه.
بحكم تعدد الثقافات والقوميات والأديان والمذاهب في منطقتنا فإن الفكر السياسي القائم على أساس الفكرة الدينية يكون إقصائيًا في حده الأدنى، وإلغائيًا في حده الأقصى والفرق بين الإخوان والوهابية وبين النصرة وداعش والقاعدة بكل تفرعاتها هو فرق بين اتجاهيي الإقصاء والإلغاء عبر أشكال عديدة تظهر في سياسة الذبح والقتل والتهجير والتشريد.
سياسة دول رأس المال وأتباعها وظفت الفكرة الدينية لمحاربة كل ما هو تقدمي ووطني وقومي وأخرجت من رحمهم التيارات التكفيرية والإلغائية والتدميرية لتنقض على المجتمعات من أجل تفتيتها ولتقطع الطريق عليها لإسقاط الدولة الكمبرادورية والانتقال للدولة الوطنية ولتدمير كافة المكتسبات الإنسانية لشعوبنا من تعليم وصحة وثقافة وتاريخ وموارد طبيعية وسرقة ثروات شعوبنا ليصبح خيار الشعوب إما مع الدولة الكمبرادورية أو الداعشية أو الإخوانية.
هذا ما حدث في ليبيا والعراق وسوريا ومصر وتونس والباقي على الطريق حتى دول الخليج التي تظن نفسها أنها محمية فالأيام القادمة ستثبت أن تغول رأس المال لا يهمه شكل أو اسم هذا الملك أو ذاك وإنما تهمه مصالحه وتراكم ثرواته ولحل مشاكله وأزماته فإنه ياكل لحم أخيه وأولاده فكيف عندما يخص الأمر استمراريته.
إن الفكر السياسي الديني يتعارض مع الهوية الوطنية والقومية ويفتح الباب أمام التعارض والتناقض على اساس احقية الفكرة الدينية ومن يملك الحق في التعبير الصحيح عنها ويدخل في تناقض وتناحر مع اتجاهات في مذهبه والمذاهب الأخرى وإلغاء للطوائف والأديان الأخرى.
أما عن انخراط الاتجاهات الدينية في حركة التحرر الوطني فإنه يخرجها من ثوبها الديني ويضعها في الثوب الوطني التحرري ويجعلها تتعارض مع منشأها الفكري ويضعها أمام مفترق طرق بين الوطني والديني ويحكم شرط نجاح استمراريتها ووعي قيادتها من حيث إمساكها للتوازن ما بين الديني والوطني التحرري بحيث يحسم التعارض بينهما لمصلحة الوطني التحرري (تجربة حزب الله والجهاد الإسلامي في لبنان وفلسطين).
هذا يضعنا أمام الموقف من المشهد في العراق وسوريا وفلسطين وليبيا ان الموقف ضد القتل والأقصاء والتهجير على اساس الفكر والدين والمذهب والقومية هو موقف ضد الإنسانية وتنوع ثقافاتها وحضاراتها .
ولنتذكر أن الأنسانية هي موجودة قبل الأديان والدين هو فكرة وحيز فعلها الطوعي يشكل جزء من الفكر الإنساني وفي بعض المحطات الإنسانية ساهم الفكر الديني في تدمير ثقافات وحضارات وأخضع شعوب وخيرها بين ترك ثقافتها وحضارتها أو تشريدها وإلغائها وفي سياق آخر وقبل اندماج الفكر الديني بحركة رأس المال فقد ساهم ايجابا في التخلص من البربرية وتعميم المفاهيم الأخلاقية التسامحية ووقف إلى جانب المظلومين .
إن الانحياز إلى الوطن والتعايش والاحترام بين جميع مكوناته هي الصيغة الأكثر انسانية وتفتح الآفاق للتطور والتقدم الأنساني .
أما عن الألتزام بالفكرة الدينية فإن مفاعيلها وظهور نتائجها ليس في حياتنا وإنما بعد بعثنا مرة أخرى ولهذا فإن معيار الأحقية الإلهية في الحساب ليست إنسانية ولا تملك أي مجموعة استخدام السلطة والحق الإلهي لمحاسبة الآخرين كون الجميع سيخضع للحساب من قبله (حسب الرواية الدينية) وإذا فعل فإنه يخضع السلطة الإلهية إلى السلطة البشرية ويعطي نفسه الصفة الإلهية في الحساب بين العقاب والثواب.