آراء ومقالاتمقالات

ما الذي يجري شرق الفرات؟ / حاتم استانبولي

 

يعتبر شرق الفرات الخزان الاستراتيجي لسورية في ثلاثة عناوين: الغذاء، والماء والنفط. هذه العناوين التي شكلت ثلاثية صمود سورية واستقلالها الاقتصادي الذي أبقاها بعيدة عن سياسيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي .

هذه الثلاثية التي أبقت سورية صفر ديون مما جعلها استثناء في منطقة غارقة بديونها وتبعيتها  السياسية والاقتصادية .

معركة تطويع سورية أخذت أبعاد وأشكالًا متداخلة ومركبة استخدمت فيها كل الخيارات السياسية والاقتصادية والاعلامية والمالية والاجتماعية كان هدفها الاحتواء في مرحلة والتطويع في مرحلة أخرى والتفكيك وإعادة التركيب .

عناوين الاحتواء والتطويع والتفكيك والتركيب جميعها سقطت، وبرز عنوان التجويع هذا العنوان الذي مورس من خلال عنوان الحصار الاقتصادي الخارجي واستئصال الموارد الاستراتيجية الداخلية بعناوينها الثلاث الغذاء والماء والنفط.

شرق الفرات تتحكم به مجموعة من العوامل الاجتماعية المتداخلة قوميًا ودينيًا بتعبيرات قبلية لها امتدادات شرقًا وجنوبًا وشمالًا حتى تصل إلى السعودية واليمن عبر بادية الأردن جنوبًا وشرقًا.

 امتدادات تصل شرقًا إلى الحدود الإيرانية وشمالًا إلى العراق وشرق تركيا الخزأن البشري الكردي بمكوناته المختلفة الذي يجمعهم العامل الخارجي الأمريكي.

العامل الكردي وتأثيراته الإقليمية :

سوريا: العامل الكردي هو الأضعف ولا يمكن أن يشكل خطرًا استراتيجيًا على الدولة السورية بدون العامل القبلي العربي لأسباب عدة أهمها طبيعته التاريخية، حيث هو امتداد لأكراد تركيا الذين يشكلون عمقًا تاريخيًا لهم، وتواجدهم في الشمال السوري كان نتيجة هروبهم من قمع الدولة التركية، وحسن نية الدولة السورية التي لم تكن تعير اهتمامًا لتزايد أعدادهم على الشريط الحدودي .

منذ أن أعلن قيام داعش وامتدادها من الموصل إلى الرقة واتخاذها الرقة السورية عاصمة لدولتها كان واضحًا أن من يقف وراء داعش وأخواتها هدفه السيطرة على خط النفط والقمح والماء العرضي  بين الموصل والرقة لتقويض بغداد وتجويع دمشق.

الكل يذكر تصريحات أوباما أن المعركة مع داعش ستستمر لـ 30 عامًا وتصريحات بايدن الذي كان يعلن وقوفه علنًا مع انفصال إقليم كردستان عن الدولة العراقية وما زال يحمل هذا المشروع حتى الآن وإذا ما نجح في الرئاسة فإن المنطقة ستشهد تغييرات جيوسياسية  تطال العراق وسوريا والأردن والخليج. سقوط مشروع داعش أسقط البعد الديني لشرق الفرات الذي كانت تراه أنقرة بعدًا سيؤول إليها أوتوماتيكيًا خاصة أن تجارة داعش كانت عبر أراضيها، وفكرها سيذوب في إطار الطموحات العثمانية،  هذا الدور الداعشي الذي استخدمته  تركيا في محاولات تصفية العامل الكردي، والكل يذكر نفوذ داعش الذي وصل إلى عين العرب التي شكلت مفصلًا في تغير الموقف الأمريكي من محايد إلى مساهم في معركة النفوذ في شرق سورية وكانت محطة تدخله المباشر عبر قوات على الأرض وبداية لتعارض بين الموقفين التركي والأمريكي عندما استعاضت أمريكا عن الفصائل المدعومة تركيا إلى دعم وإنشاء وحدات حماية الشعب الكردي وحلفائه من القبائل العربية وطلبت من السعودية دورًا ماليًا لدعمها.

الدعم الأمريكي للعامل الكردي رأته أنقرة أنه يشكل خطرًا استراتيجيًا عليها ويقوض تطلعاتها المستقبلية بعد 2023 هذا العام الذي تعتبره انتهاء لمعاهدة لوزان 2 (1923) هذه المعاهدة التي شكلت إعلانا رسميًا لانتهاء الدولة العثمانية وولادة تركيا الحديثة.

أمريكا ترى بالعامل الكري ورقة ضاغطة لوقف جماح الطموحات التركية ما بعد 2023 لتكون عامل عدم استقرار وتقويض لوحدة تركيا إذا ما ذهبت تركيا بعيدًا في مطالباتها بإعادة صياغة معاهدة جديدة تأخذ بعين الاعتبار المصالح التركية في قبرص والموصل وشمال سوريا وممر البسفور، والتنقيب عن النفط في تركيا وفي محيطها الإقليمي وبذات الوقت عاملًا ضاغطًا على دمشق لاحتوائها سياسيًا واقتصاديًا.

إن ما تقوم به تركيا الآن هو فرض وقائع على الأرض وفي البحر تحضيرًا لاستحقاقات 2023.

المنطقة الآمنة التي تريدها في شمال سورية لنقل اللاجئين السوريين إليها ليشكلوا حاجزًا بشريًا لعدم استخدام العامل الكردي كورقة للتلاعب في الداخل التركي.

من المعروف أن تركيا تملك معسكرين داخل الأراضي العراقية، أولهما في دهوك أقامته عام 1997، والثاني في بعشيقة أقامته 2015 لاستخدامهما في أية تطورات ميدانية تتطلبها المصالح التركية.

إن الطموحات التركية في استعادة محافظة الموصل ووصولها إلى الرقة من خلال عنوان المنطقة الآمنة التي تحدد عمقها بين 20 و40 كلم داخل الأراضي السورية  تراها أنقرة حدود أمنها الاستراتيجي.

الموقف الأمريكي ما زال غير واضح ولا يملك رؤية استراتيجية حول مستقبل شرق سورية ولا يريد أن يدخل في صدام مع حليفه التركي الذي تسحبه الصنارة الروسية وتدغدغ طموحاته من خلال الاعتراف بدور سياسي له في تقرير مصير شمال سورية من خلال أستانة.

العامل الاسرائيلي يقف على الحياد الإيجابي بمعنى أنه في حال خير ما بين إيران وتركيا سيختار الموقف التركي لأسباب تاريخية ومستقبلية .

الموقف الإيراني السوري هذا الموقف الذي يقف متحفزًا على حدود الفرات ويعمل على فصل موقف القبائل العربية عن الموقف الأمريكي الكردي.

هذه القبائل التي تحمل تنوعًا دينيًا وأغلبيتها ترى أن الدولة السورية هي الحاضنة الآمنة لهم ولاستمرارهم.

العامل الأمريكي استعان بالسعودية لتطويع موقف القبائل العربية التي شعرت أن سيطرة وحدات حماية الشعب الكردي لا يشكل انعكاسًا لميزان القوى القبلي على الأرض حيث يشكل الأكراد أقلية ووجودهم محصور بعمق 10 كلم على الحدود مع تركيا وأية عملية تركية في الشريط الحدودي سينهي تواجدهم ناهيك عن أن القبائل العربية قد ترى في العامل التركي أكثر أمنًا على دورهم من العامل الأمريكي الكردي المدعوم سعوديًا في معادلة الخيار بين الأمريكي الكردي أو التركي.

الموقف المعلن أمريكيًا بالتوصل لغرفة مشتركة لمراقبة المنطقة الآمنة هو إعلان لذر الرماد في العيون لطمأنة وحدات حماية الشعب الكردي التي إذا ما استمرت بموقفها ضد الدولة السورية سيكون مصيرها كمصير عفرين  وسيخرج الأكراد من مستقبل سورية ولن تنفعها مواقف اللحظات الأخيرة .

 الدولة السورية لا خيار لها إلا أن تنهي ملف إدلب وتبسط سيطرتها كاملًا على المحافظة لتوحد إمكانياتها من أجل استحقاقات شرق الفرات المتداخلة .

تركيا تحضّر نفسها برًا وبحرًا من أجل استحقاقات 2023 لفرض واقع يدفع أوروبا وأمريكا لإعادة التفاوض معها من موقع الطرف وليس الحليف، وتدخلاتها في ليبيا ومصر وتونس من موقع رؤيتها لحقوقها العثمانية، هذه التدخلات التي تستخدم فيها أدوات محلية إخوانية ترى في أنقرة مرجعيتها التي من الممكن أن تعيد مجد الدولة العثمانية هذه الدولة التي تتعارض مع مصالح تحالف الرباعية (السعودية مصر الإمارات والبحرين).

أنقرة ترى أن تحقيق طموحاتها يتعارض مع استمرارها في حلف شمال الأطلسي، ولذلك فإن كل الخطوات المتقاربة مع موسكو جوهرها الاستناد عليها من أجل فرض رؤيتها كطرف في تحديد الخيارات المستقبلية للمنطقة.

هذا التقارب سيؤدي لفرض واقع جديد يتعارض تصاعديًا مع دور أنقرة في حلف شمال الأطلسي ليؤهلها للجلوس إلى الطاولة كطرف ويغلق الباب أمام حل الخلاف داخل أروقة الحلف لإعادة صياغة اتفاقية جديدة تحرر أنقرة من قيود لوزان 2 .

 كل المؤشرات تقول أن القضم التدريجي سيقود إلى معركة حسم إدلب في ظل الانشغال الانتخابي الأمريكي  كما حصل في حلب وسيفتح الباب أمامها للتصدي لمخططات شرق الفرات وشماله.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى