لا سلام في وطن السلام
في الفيلم الأميركي المؤثر “12عاماً كعبد”، يُنشد العبيد المعذبون ترنيمة من “روحانيات” العبيد عند قبر واحد منهم. وتتحدث تلك الأنشودة عن الأشواق إلى نهر الأردن –نهرنا هنا. اسمها Roll, Jordan, Roll، وقد استوحاها الشاعر توبسي تشابمان من الرواية الأصلية التي كتبها سولومون نورثوب في العام 1853. وتقول كلمات الأنشودة: ذهبتُ إلى نهر الأردن/ حيث عمَّد يوحنا ثلاثة/ وعندما اقتربتُ، قال الشيطان في الجحيم: “يوحنا لم يُعمدني”.
مسّ ذكر نهر الأردن في قصة أولئك الناس المعذبين البعيدين عصباً: نحن أهل المنطقة التي يستغيث بها ويناجيها الباحثون عن السلام من أقاصي الأرض. ومع ذلك، ما يزال السلام بعيداً عنا وعن أوطاننا. ومن المفارقات أن الأميركيين الذين يسردون تاريخ استعبادهم الوحشي للناس، ويعرضونه كماضٍ مؤسف، هم الذين يتولون رعاية وتمويل الوحشيّة التي تُمارس الآن في أرض السلام المقدسة، ضد أصحاب الأرض التي وُلدِ فيها المسيح عليه السلام، نبي السلام.
بينما كانت للمستعبدين في العالَم روحانياتهم وأشواقهم إلى الخلاص في أرضنا المقدسة، أصبحت لدينا نحنُ أيضاً “روحانياتنا” التي لا تختلف كثيراً: “حين هوَت، مدينة القدسِ، تراجع الحبُّ، وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب… الطفلُ في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان… لأجل من دافع واستشهد في المداخل، واستشهِد السلام، في وطن السلام، وسقَط العدلُ على المداخل”.
ما مِن حربٍ أكثر وحشية من التي تستعر منذ قرنٍ تقريباً في وطن المسيح. ومن مطلق النفاق والازدواجية أن يحتفل العالَم بفكرة السلام وهو يسكتُ عن احتلال غاشم مقيم في هذه المنطقة التي لا تغيب عن انتباه أصحاب الأديان والعقائد السماوية، وتشكل جزءاً من تراثهم. ومن المؤكد أن المحتفلين يشاهدون كيفَ يُمنع المصلون الفلسطينيون من الوصول إلى كنائسهم ومساجدهم بالهراوات والرصاص.
مع ذلك، يبقى لنا ذلك الإحساس العالي والعميق بأننا نحن أصحاب هذا الإرث والتنوُّع، حيث انطلقت الرسالات التي قصدَت أن تجلب الهدوء للأرواح، ليخرجها الجشع البشري عن سكّتها ويحولها إلى أيديولوجيات تبرر التعسُّف وإقلاق هدأة الروح –والتصفية الجسدية للأبرياء، كثيراً باسم الأديان.
الأسوأ من نفاق رعاة الاحتلال والساكتين من الخارجيين هو أن البعض منا يُشاركون. ليس من المعقول أن ينقلب المضطهدون على مواطنيهم باسم اختلاف الأديان. ومِن غير المفهوم أن لا يغار كل واحد من أهل هذه الأرض على كل مكوناتها التي هي تكوينه وثقافته وهويته. ولا أدري كيف يمكن أن لا يشعر أحدُ بالحب لكل حجر في وطنه، سواء كان في جدران كنيسة أو مسجد، بنفس المقدار.
وحتى اليهود من مواطنينا الأصليين، في المنطقة العربية أو ممن كانوا في فلسطين نفسها قبل الهجرات الاستعمارية والاحتلال، ليسوا أغراباً في التكوين المتنوع الداعي إلى الفخر. لا يمكن أن يُشاهد المرء اليهود الفلسطينيين من “ناطوري كارتا” في القدس وهم يرفعون علمهم الوطني، علم فلسطين، ويحرقون علم الاحتلال ويواجهون الجنود والمستوطنين، ولا يحبَّهم كأبناء بلد كما هُم.
من المؤلم أن ينخرط أهل هذه المنطقة في أي شكل من التمييز والخلاف –بل والحرب القاتلة- على أساس الأديان. ومن المؤسف أن هناك مَن يشترون ما يبيعه القتلة الذين يحرِّضون الجار على جاره ومواطنه الذي عاش أجداده مع أجداده وتقاسم معه حبّ هذه الأوطان والانتماء إليها وبنائها والحق فيها. ومن الغريب أن تتحوَّل هبة التنوُّع والثراء الثقافي والاتساع وسعة القلب إلى أعداء لأشخاص لا بد أنهم يعادون أنفسهم ويكرهون أجزاء من تكوينهم نفسه كمن يريد أن يقطع إصبعه أو يستل قلبه!
تذكرنا أعياد الميلاد المجيد بما لا ينبغي أن يُنسى: أنّه عيد من أعياد كل المنتمين إلى هذه الثقافة الكبيرة، أصحاب المسجد الأقصى والإبراهيمي وكنائس القيامة والمهد، والخضر وشعيب وكل الرموز التي يقدّسها الآخرون. وينبغي للذي يجد في نفسه شكّاً في اعتناق ثقافته بكل عناصرها الغنية على هذا النحو كما هي، أن يتلمس العطب الذي يضرب نفسه –وينبغي أن يتحسس رأسه.