حوار مع سهى بشارة..سكندر حبش
أردتُ أن أكتب تاريخي وتاريخ المرأة في المعتقل
سهى بشارة: لا أريد العودة والبقاء على الطريق
معتقل الخيام» عنوان الكتاب الجديد لسهى بشارة (كتبته وصاغته كوزيت ابراهيم) الذي تروي فيه سيرة السنوات العشر التي قضتها «في الجحيم الصغير» حيث تستعيد فيه ذكرياتها لتروي سير النساء المعتقلات. كتاب عن حضور المرأة في هذا الحيز الذي كان خارج الزمن والتاريخ. من أيام كانت بشارة حاضرة لتوقيع كتابها في معرض الكتاب الفرانكفوني، حيث دار هذا الحوار.
– الملاحظة الأولى التي تطرأ على البال، أنه منذ أن خرجت من المعتقل وذهبت إلى سويسرا تبدو زياراتك إلى لبنان قليلة.
ـ (تقاطع ضاحكة) «لأن المصاري قليلة»، وبطاقات السفر أصبحت غالية الثمن. لو كانت أرخص لجئت بالتأكيد مراراً. المسألة مادية بحتة، لا شيء آخر..
– حسنا، كيف تبدو أمورك اليوم في سويسرا..
ـ ما عدا الاهتمام بالعائلة والأولاد، هناك أمر محوري في حياتي هو الموضوع الفلسطيني، إذ أشارك أحياناً في إعطاء مداخلات ومحاضرات لها علاقة بشكل أو بآخر إما بالموضوع الفلسطيني من خلال حملة المقاطعة وإما بموضوع المقاومة وموضوع لبنان وموضوع المرأة. أما الشق الثاني فأنا عضو في «collectif urgence Palestine» في جنيف، ومنذ ثلاث سنوات أطلقنا نشاطاً أسميناه «Palestine filmer c’est exister» وهي عبارة عن لقاءات سينمائية ما بين المخرجين الفلسطينيين ومخرجين من دول أخرى لكن هناك دائماً موضوعة نعمل عليها، على سبيل المثال موضوع هذا العام حول «اللاجئون المتنقلون المنفيون» ويشارك فيه 18 فيلماً لمخرجين فلسطينيين، سيحضر من بينهم 6 مخرجين بالإضافة إلى ريشارد ديندو الذي أخرج فيلم «جينيه في شاتيلا». إنها محاولة للإطلالة على القضية الفلسطينية من منظار آخر. لهذا السبب نختار دائماً موضوعاً محدداً وهذه المواضيع على علاقة مباشرة بفلسطين لتبيان كم أن فلسطين وحدها قادرة على أن تجمع كل قضايا العالم بقضية النكبة.
– هل من نشاطات أخرى؟
ـ هناك نشاط اللغة العربية، أسسنا مع مجموعة مدرسة عربية بدعم من مدينة جنيف، ولدينا مئة طالب لغاية الآن. حيث نجد الدعم المالي من البلدية.
– كيف هو الموقف السويسري من هذه النشاطات..
موقف إيجابي ومهم، إذ إن مدينة جنيف هي التي تدعمنا بشكل مباشر. مثلا فيما يتعلق بموضوع اللغة العربية لسنا نحن الذين ندفع رواتب الأساتذة إذ إن الدولة هي التي تقدم ذلك عن طريقنا. كذلك الأمر بالنسبة إلى المهرجان السينمائي، إذ إن نصف الدعم يأتي من جمعيات موجودة في جنيف والنصف الآخر من مصادر خاصة. في أي حال تعاطي وسائل الإعلام السويسرية اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه حين بدأنا نشاطنا العام 2002. أضف إلى ذلك هناك الكثير من النشاطات التي تقام مباشرة ما بين سويسرا وفلسطين. أقمنا مؤخراً معرض غزة في جنيف، وبصراحة لولا الدعم السويسري لما كان باستطاعتنا القيام بذلك. وبعيداً عن أي قراءة سياسية للموقف السويسري الرسمي، لا بد أن تجد اليوم مكاناً لفلسطين هناك.
فلسطين
– إزاء كل هذا، حيث أن كل النشاطات التي تحدثت عنها تتعلق بالقضية الفلسطينية، أريد أن أسأل أين المقاومة، أين تاريخك الحزبي في لبنان من كل هذه النشاطات؟
ـ بالنسبة إلى موضوع المقاومة وأحصر الموضوع «بجمول» بما أننا اليوم في الذكرى السادسة والعشرين لهذا الاعتقال: انخراطي بجبهة المقاومة كان بهدف تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. لم أكن أفكر على مستوى فلسطين، أي لم تكن هذه القراءة الفلسطينية ضمن قراءاتي ولا حتى اهتماماتي في تلك الفترة. وكان هذا التحرير بالنسبة إليّ جزءاً من، لا كل شيء، لأن حلمي الأكبر كان بناء دولة يحس فيها المرء أنه مواطن حقيقي وأنه حين يذهب إلى المدرسة يجد تلك العلاقة بين الأستاذ والتلميذ.. هكذا كانت بداياتي في اتحاد الشباب.. وحين أدخل الجامعة فلأني طالبة لا ابنة فلان أو فلان. وهناك واجبات وحقوق أي أن هناك بلد وهناك ما يسمى عدالة اجتماعية. وأنا أؤمن أن هذه العدالة الاجتماعية لا تُبنى بسياسة خصخصة البلد كما بخصخصة الناس. هذه كانت قناعاتي. حين اعتقلت وفي فترة ما بعد التحرير لم أجد نفسي أني كنت موجودة فقط ضمن حدود معينة. بعد سفري إلى فرنسا كبر عندي هذا البُعد، إذ لم يعد الأمر معتقل الخيام فقط بل هو وكل السجون الإسرائيلية. أثناء وجودي في أوروبا، أعتقد أن هناك تطورا لقراءاتي الخاصة إذ اعتبر أن ليس هناك أي معنى أن أتحدث عن فلان أو فلان أو عن أحزابنا في فرنسا وأوروبا. بدأت أعتبر أن هناك قضية وحيدة يمكن الحديث عنها هي القضية الفلسطينية لأنها المعبر. حتى أنني وصلت إلى شبه قناعة وهي أن لا أحلم ببناء ديموقراطية طالما أن مشروع وجود دولة فلسطينية أو حتى دويلة هو أمر مرفوض. من ضمن هذه القناعات أجد أن ذلك هو سبب لم يجعلني أعود إلى هنا، أو لأقل سبب بقائي هناك. لا أرغب حين أعود أن أبقى في الشارع مثلا وأشحذ، ليس لدي إمكانية هنا لأعيش وأن يعيش أولادي. كانت هناك بعض المحاولات لأعود، لكن «ما مشي الحال».
– لماذا؟
ـ لم أجد عملا ببساطة..
– التقينا قبل 14 سنة في باريس..
ـ صحيح، حين صدر كتابي الأول..
– اليوم وبعد هذه السنين الطويلة، تصدرين كتابا آخر: ما الذي تغير من تلك الفترة إلى اليوم. ما الذي تغير فيك، في رؤيتك الأشياء.
ـ أعتقد أن الذي تغير هو ما أريده من البلد والعالم والمجتمع وكم هي حدودي وأين تقع. وحتى إن أردت العودة أقر متى أعود وكيف وهل عندي استعداد أم لا للعودة. فيما مضى كان موضوع عودتي إلى لبنان موضوعاً تلقائياً، لأقل تحول إلى شعار، لكن مع مرور الوقت لم يعد كذلك بل أصبح أمراً واقعياً، أي أني مقتنعة بضرورة عودتي لكن وفي الوقت عينه أعتقد أنني أصبحت منطقية وواقعية بشكل اكبر، أي لا أريد العودة والبقاء على الطريق.
الكتابة
– سؤال كبير يُطرح على القوة السياسية في البلد، في أي حال، ما الذي أخذك إلى الكتابة، غير أن تسجلي تجربتك؟
ـ جاء الكتاب الأول لأننا كنّا بحاجة لوثيقة في قلب فرنسا عن معتقل الخيام، يومها كنّا على اقتناع أنه سيتم نقل المعتقلين من هذا المعتقل إلى قلب السجون الإسرائيلية وبالتالي كنّا بدأنا نحضر لكيفية عدم محاولة نقل المعتقلين. أسسنا لجنة المحامين، كتبنا هذا الكتاب، الذي أتى ضمن هذا السياق كمادة ضرورية لكي نتحدث عن هذا المكان الذي لم يكن أحد يرغب في السماع عنه.
أما فيما يخص الكتاب الثاني، أقول إنه جاء لكي لا يكتب لي أحد عني تاريخي الخاص على ذوقه، بل أريد أنا نفسي أن أكتبه. وحين أقول تاريخي فأقصد انه على علاقة بتاريخ المرأة داخل المعتقل. في هذا الكتاب هناك تركيز كبير على دور المرأة. منذ عام 2000 كان لدي هذا الهم بأن أتحدث عن هذا الفن البدائي، هاجس أن أتحدث عن قصة القلم والورقة والإبرة والملعقة وفرشاة الأسنان وعن كلساتي الخ.. وهذه أشياء ليست خاصة فيَّ وحدي..
– أي رغبت الخروج من تجربتك الخاصة إلى التجربة العامة..
ـ طبعاً.. من هنا كنت أجد ضرورة قصوى للتطرق إلى هذه الموضوعات. بدأت العمل على هذا الكتاب منذ فترة طويلة واستغرق وقتاً طويلا. بداية كانت هناك ضرورة للحفظ على الأشغال اليدوية وحفظها وأرشفتها ومن ثم كتبت المادة حيث لم أعتمد فقط على ذاكرتي بل عمدت إلى التوثيق إذ أجريت مقابلات شخصية مع كل الأسماء الواردة في هذا الكتاب أي مع المعتقلات لكي لا أعتمد على ذاكرة ذاتية، صحيح أنها وفق رؤيتي وعيشتي لها إلا أننا عدنا ووثقنا لكل هذه القصص التي كتبت. بالنسبة إليّ كانت هناك ضرورة قصوى لهذا الكتاب لا بد منه. بعدها بحثت طويلا كي أجد أحداً يكتب هذا الكتاب، أن يعيد صوغه..
– قلت شيئاً مهماً: أردت أن تكتبي أنت قصتك لا أن يكتبها أحد عنك وعلى ذوقه، ماذا تقصدين؟ هل هناك من يحاول أن يغير هذه الواقعة؟
ـ طبعاً، من يرغب اليوم في أن يوثق لتجربة معتقل الخيام فإننا نجده يوثقها من منظار مختلف كلياً بمعنى أنه لن يقرأ التاريخ مثلما يريد هو لا كما أقرأه أنا.. في أي حال، هذا الكتاب أعددت مادته الأولى بأكملها، وأعادت كوزيت ابراهيم كتابته وصوغه. أنا لا أجيد فن الكتابة ولا يمكن أن أدّعي هذا الشيء. كان الاتفاق بيني وبينها أن لا أتدخل في عملها لا من قريب ولا من بعيد من حيث الأسلوب بل أتدخل إن كانت المعلومة التي أعطيتها إياها خطأ.
– أنت اليوم مدعوة ككاتبة سويسرية إلى معرض الكتاب
ـ هذا شيء جميل جداً.
– لكن أليس هناك شيئاً غريباً أن تعودي إلى لبنان لا لأنك سهى بشارة بل لأنك كاتبة سويسرية؟ اعتقد أن ثمة كارثة في الأمر
ـ لا أعرف إن كانت كارثة.. في أي حال أولادي سويسريون لم يحصلوا على الجنسية اللبنانية. أعيش في سويسرا من 11 سنة و10 سنوات في معتقل الخيام والباقي في بيروت.. أنا نسيج من هذه الجنسيات الثلاث، إذ أن معتقل الخيام جنسية على حدة..
أجرى الحوار: إسكندر حبش