الحروف تدركها حواس الروح / بقلم: عوض العلي
أستظل من هجير جهلي تحت رفوف مكتبتي.. أقلّب رفوف الكتب فيها.. أدنو منها لقراءة العناوين على ظهور الكتب.. أميل برأسي جانباً كي أتمكن من قراءة عناوين بعضها.. أُعدّل من وضعية رأسي فتصعب علي القراءة.. أتوقف وأسأل نفسي، كيف لرسم منقوش طولياً على ظهر كتاب أن يميزه عن كتاب آخر!!.. ألفظ تلك الحروف كمبتدئ يتعلم تهجئة.. تلفني متعة طفولية تذكرني بلفظ الحروف أول مرة.. جميل هو لفظ الحروف أول مرة كلذة الضمة الأولى والقُبلة الأولى.. ينبثق شيء يرن في داخلي.. يتمدد ويتقلص كعازف ينقل أصابعه على أوتار آلة وترية ويضرب بيده الأخرى تلك الأوتار.. تُولد حينها موسيقى اللفظ.. وتولد معها الفكرة..
لانحناء اللفظ في صمت الحروف مذاق يعطي كل حرف منها نكهة تميزها الروح.. تستلذّ بها أو تشمئز منها.. وعلى متونها تحمل – رغم هشاشة لفظها – كينونة الناطق بها.. فعلى عكس ما نظن تصنعنا الحروف كلما لفظناها.. فهي ما خفي منا خلف الجسد.. هي العقل والقلب معاً..
والحروف سرٌ في كل ما تسأل عنها.. فلا أحد يعلم من أين أتت.. ولا من هو أول من نطق بها.. ولا جواب أبداً لكل ما قد يدور في خلدك عنها.. ويبقى التساؤل أبداً ما بقيت الحروف.. فهي وسيلته المطلقة وإن اختلف السؤال.
كيف لزخارف تنطق أصواتاً، أن توجع أو تضحك أو أن تستثير المشاعر أو الغرائز!!.. كيف لها أن تكون كؤوساً نصبّ فيها ذواتنا وأفكارنا ليشرب منها غيرنا فيعرفنا!!.. كيف لها أن تكون مراكب بين أرخبيل جزر من الأرواح المتآلفة أو المتناحرة !!.. كيف لها أن تشعل ثورة أو تطفئ حرباً!!.. أن تشيّد حضارة أو أن تهدم مجداً!!.. كيف لها أن تكون، نحن!!
ترجعنا الحروف إلى الطفولة الفكرة أو تعبر بنا صفحة الزمن وحاشيته إلى أرذل عمرها.. أو تأرجحنا فيما بين هذا وذاك، كفهرس الكتاب.. معقدة هي الحروف كأغصان شجر السدر.. وبسيطة كذوبان السكر.. مبعثرة كسرب حمام.. ومنتظمة كبذور زهر عباد الشمس.. نطقها يبقيها عذراء وإن تكررت المرات.. تدور في فلك سماوي من المعاني ولا تتشتت.. تجدها دائماً لا تضيع منك ولا تنساها.. قد ننسى قائلها وناقلها وأين سمعتها، لكن لا ننسى ما حملت.. تسمع صوتها في داخلك.. تلفظها وإن جمدت شفتاك وتصلّب اللسان.. فهي تقرؤها الأرواح فينا.
لا تموت الحروف لكنها تولد مراراً.. فهي الأبدية التي تبقى بعد زوالنا.. قد يقدسها الناس بعدنا إن سمعوها مروية عنّا، أو قد يلعنونا بها.. تبقى دائماً تقفز في ذاكرة من يأتون بعدنا أو من نغيب عنهم كشرر الموقد.. كلما أذكى مشهد يخصنا نار الذاكرة.. أو نفخ فيها مرور صورنا قادمين من العدم.. يسمعوها بأصواتنا ملئ المدى رغم انحسار الحضور.
والحروف ألوان، فهي إما زرقاء غامضة إن لم نفهمها.. أو برتقالية دافئة إن أتت إلينا ممن نحب.. أو حمراء حارقة إن نطق بها عدو.. أو صفراء مرهقة إن خرجت من جوف مريض.. وهي الطبيعة وما وراءها معاً.. قد تُلفظ عاصفة كشرود خيل برية.. أو مزلزلة كرعشة ذروة جنسية.. أو قد تكون مقلقة كطلاسم السحرة.. أو مرعبة كظهور جنّي رَصَد الكنز.
وللحروف رائحة كرائحة الجوري إن أتت في قصيدة غزل.. وكرائحة النعنع البري في النصوص المقدسة.. وكرائحة الخبز في قصص الجدات.. وكرائحة التبغ في مجالس النميمة.. وهي تحمل مشاعراً مثلنا.. فقد تتهدى على وجنة الورق كأنها دمع.. وقد تنتحر قهراً قبل ولادتها في الحلق إن زاحتمها المشاعر.. وقد تتلوى طرباً كأفعى ساحر هندي إن حظيت برفقة مقام موسيقي.
وأُمعن النظر طويلاً في رفوف الكتب.. أتقدم وأتأخر وأهيم في الجهات الأربعة في أرض الأفكار وأنا أُقلب تحت صخورها بحثاً عن حقيقة أنه كيف لنا أن ندرك الحروف!! أمضي طويلاً أتنقل بين واحات الخيال على صهوة الوقت.. وأعود بعد عنت لأدرك أننا لا نرى الحروف حقيقةً إنما نرى رسمها.. فالحروف أشياء غير تلك التي نرسمها.. شيء تدركه حواس الروح لا حواس الجسد.