مقالات

الطائفية و«داعش» في خدمة إسرائيل

مشهد اغتيال الجندي الإسرائيلي للشاب الفلسطيني الجريح عبد الفتاح الشريف في مدينة الخليل، لا يعبر عن استهتار صهيوني بحياة الفلسطيني والرأي العام العربي والعالمي، بل يلخص السقوط العربي في قاع لا قاع له.


مَن يهتم لروح فلسطينية تُزهَقَ، أو لجريمة إسرائيلية تحدث يوميا، في زمن لم تعد فيه أي قيمة لروح الإنسان العربي، وأصبح «التحالف» مع إسرائيل رسمياً أو ضمنياً جزءاً من أبجديات معظم الأنظمة العربية؟
المشهد مرعب: إسرائيل تتمادى في إجرامها، بل تدافع عن جرائمها بكل صفاقة وأريحية. ولمَ لا؟ فالعربي، مسيحياً كان أو مسلماً، سنياً أو شيعياً، كذلك الكردي والأشوري والايزيدي وكل من صنع خريطة التنوع والحضارة ما بين الفرات والنيل حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، يغرق في شلالات دم الاستبداد والطائفية «المُصَنعة»، لخدمة الساسة وتجار الحروب.
أبشع ما يحدث ليس أن تصبح المجازر في العراق وسوريا ولبنان واليمن وتونس وليبيا شيئاً عادياً، بل مشاركتنا في خطاب إقصائي إلغائي، بعض تعبيراته دينية طائفية، وباقي مفرداته شوفينية عنصرية، حتى نجد من يحتفي بمجزرة ويدين مجزرة أخرى وفقاً لعصبيتنا وتعصبنا، اللذين نغلفهما بمسوغات إما فقهية أو «قومية» أو حتى «حضارية»، وكلها تبريرات زائفة لانسحابنا داخل شرنقات الهويات الفرعية، طائفية كانت أم إثنية.
نكاد ننسى أننا، بقبولنا الخطاب الطائفي الهوياتي، حتى إن لم نقصد ذلك، نتماهى مع الخطاب الصهيوني المبني على «تفرد الهوية اليهودية»، وضرورة إقامة كيان سياسي جغرافي لها «يحمي هذه الهوية وسط عالم عربي عدواني ومعادٍ».
فالكيان الإسرائيلي مؤسس على فكرة الإقصاء والإلغاء، إذ لم يكن من الممكن «بناء الدولة اليهودية» من دون التخلص من السكان الأصليين، أي العرب الفلسطينيين، ومن دون السيطرة على مَن تبقى منهم، في عملية ممنهجة لسرقة الأرض والتراث وحتى الذاكرة، لأن مصادرة التراث وإلغاء الذاكرة كانا وما زالا شرطاً لفرض وتصنيع وتثبيت كينونة إسرائيلية يهودية.
نكاد ننسى أن الخطاب الطائفي الهوياتي، المبني على الإقصاء والإلغاء، يعني القبول بالتفتيت ويؤدي إلى نشوء عقلية «الغيتو»، التي تتحول الى «غيتوات فعلية»، تجلعنا مشغولين بعضنا ببعض، نعيش في خوف وشك، فلا نفرّق بين عدو وصديق، والنتيجة أن نقبل «حماية» من أي أحد… حتى من إسرائيل.
بدأنا نرى تبريرات «فكرية» لمثل هذه العقلية، بل تنظيرات لتحالف مع إسرائيل ضد أنظمة عربية أو في مواجهة «داعش». مثل هذا التنظير، وإن كان يعكس فكراً انهزامياً أو يعكس هوس الذعر الطائفي، أياً كانت الطائفة، فيه الكثير من الزيف.
فكيف يمكن النظر إلى «إسرائيل» كحليف ضد استبداد أو طائفية أو حتى ضد «داعش»، حين تكون كل أيديولوجيتها مبنية على الاحتلال والإحلال والتمييز وفرض وقائع على الأرض بالقوة؟ هذه التنظيرات التي نراها لدى بعض المثقفين العرب وتلقى رواجاً، ما هي إلا قناع يخفي طموحات شخصية؛ إذ إن إسرائيل تجسد «التمدد الغربي»، الذي يراه هؤلاء رمزاً للحضارة والتمدن، وهي ظاهرة متوقعة في ظل انهيار عربي يعزز «نزعة النجاة الفردية».
في المقابل، نرى اتجاهاً يتمسكك بالتطرف الديني، بما يمثله «داعش» من قوة لا حدود لدمويته، وهناك من يجد في ذلك رداً على كل ما تعرض له العالم العربي والإسلامي من اضطهاد منذ الاستعمار، وقصف أفغانستان وباكستان وغزو العراق واحتلاله، وعلى رأس ذلك احتلال فلسطين وتشريد أهلها.
نستطيع بكل سهولة إدانة هذا التفكير، لكن معركتنا يجب أن تتجاوز الإدانة. إذ إنها معركة تنويرية لإعادة ترسيخ القيم التحررية في مواجهة الظلم والاستعمار والإرهاب؛ إذ إن مَن وراء ذلك ليس له علاقة بمواجهة فِطرية أو استراتيجية للاستعمار. فحركات التطرف ليست ذات طابع تحرري، بل هي استغلال بائس لشباب يائس من تهميش اجتماعي أو سياسي، في جرائم قتل، لا تقتل الضحية فحسب، بل تقتل كل قضية عادلة وإنسانية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
علينا الاعتراف بأننا نخسر شرائح واسعة من الشباب العربي، حتى أولئك الذين لم ينضموا لـ «داعش»، لكنهم رضخوا للخطاب الطائفي الذي يجعل حماية «المذهب» أولوية ضمن صراع البقاء، فيما يرى الصراع مع إسرائيل والاستعمار «صراعاً دينياً» يبيح عمليات القتل ضد كل مَن يمكن اعتباره في عداد «الآخر».
إسرائيل هي المستفيد الأول، إذ إنها ككيان قائم على العنصرية والتدمير والقتل، تجد في عمليات «داعش» غطاء لجرائمها تحت شعار «مجابهة الإرهاب».
فما حدث في الخليل لم يكن جريمة مصورة وموثقة فقط، بل ترافق مع تبريره بـ «ذرائع أخلاقية»، ليس من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فحسب، بل من قبل 82 في المئة من الرأي العام الإسرائيلي، الذي أعرب عن تأييده للعملية البشعة.
إسرائيل تستغل المشهد بجدارة، فطلعات مقاتلاتها وعملياتها في الأجواء السورية مقبولة، سواء من قوى وأنظمة متحالفة مع النظام السوري أو ضده. وهذا يعطيها وضع «الحليف» في ما يسمى الحرب ضد الإرهاب، ويسمح لها بتحقيق أهدافها، سواء كانت عسكرية داخل الأراضي السورية أم سياسية.
الصورة لا تبعث على التفاؤل، لكن التشاؤم هزيمة نفسية. واستمرار الفلسطيني على المقاومة، بكل أشكالها، وإنجازات حركة المقاطعة ضد إسرائيل، ليست مصدر أمل فحسب، بل دليل على أن المقاومة ممكنة، وأن التفوق العسكري لا يضمن النصر، وأن قبوله هو الهزيمة.
الخوف هو من الاستسلام النفسي الجمعي لمقولة أن إسرائيل «أضحت واقعاً تعودنا عليه»، وأن «داعش هو الوحش الحقيقي الذي يفتك بنا».
حينها فقط ينتصر «داعش»، لأن انتصاره الحقيقي ليس في تمدده الجغرافي، بل في شل العقول والإفادة من تحوّلنا إلى هويات صغيرة مذعورة. وهذه هدية «داعش» لإسرائيل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى