مقالات

وداع يليق بفنان عربي استثنائي لم يلهث أبدًا وراء الضوء!!/ طارق الشناوي

فى آخر حوار للفنان الأردنى العربى الراحل ياسر المصرى قبل ساعات قليلة من توديعه الحياة فى حادث سير بمدينة (الزرقاء)، سألوه فى برنامج (صباحات) فى التليفزيون الرسمى الأردنى وذلك بمناسبة العيد، عن أهم شىء يفعله للحفاظ على مشاعر الحب مع الجمهور، قال لهم التوفيق يأتى من الله ومن ثم محبة الناس، وعندما تكتسب محبتهم، سينسى الناس ما نقع فيه من أخطاء وهفوات، فالكل معرض للخطأ والكمال لله وحده، وأضاف القراءة الدائمة والاطلاع قبل تقديم الأدوار يسهمان فى إثراء العمل، وهو لهذا كثيرا ما يسأل الكتاب والمخرجين عن الشخصيات التى يؤديها ليتواصل مع روح الشخصية، من خلال عبور جسور المعرفة.

تذكرت قبل نحو عامين عندما وقع اختيار وحيد حامد على ياسر المصرى لأداء دور الرئيس جمال عبدالناصر، لم يكن هو بالمناسبة الترشيح الأول، وأغلب الأدوار التى تحقق نجاحا استثنائيا مع الجمهور تكتشف أن القدر يلعب دورا رئيسيا فى فى توجيهها لمن يستحقها، وكما يقولون دائما الصدفة تأتى لمن يستحقها، لم يكن هذا هو جواز مروره الأول على خريطة الفن المصرى، كان له أكثر من دور بدأت بفيلم (كف القمر) ومسلسلات مثل (دهشة) وغيرها، ولكن جمال عبدالناصر بما يحمله كشخصية مثيرة للجدل، حققت له تواجدا شعبيا ودائرة واسعة، الناس لديها فى الحقيقة رأى مسبق على الرئيس حبا أو كرها، ونادرا ما تجد أن هناك من يحكم على الشخصية الدرامية بحياد.

فى كل الأحوال وحيد حامد الكاتب ليس من دراويش الناصريين، وليس أيضا ممن يصوبون فى مناسبة وغالبا بدون مناسبة نيرانهم لقتل عبدالناصر، وذلك عندما يحملونه كل موبقات المجتمع، أى كارثة صحية أو تعليمية أو اقتصادية أو حتى كُروية يشيرون بأصابع الاتهام على الفور إلى ناصر.

الشخصية فى سيناريو وحيد استندت للتاريخ ملتزمة الحياد، وحيث إن التاريخ حمال أوجه، فلم تسلم من الهجوم باعتبارها غير محايدة، كان الدرع الواقى لشخصية ناصر فى المسلسل، هو تلك العفوية التى يؤدى بها ياسر الدور، ولا أظن أن هناك من شغل نفسه بالحديث عن التوجه السياسى للممثل، فلقد تماهى مع الدور، وانفصل فى نفس الوقت عن ثنائية الحب أو الكراهية.

نعم يكون هو الأسبق فى الترشح للدور وبينهم نجوم مصريون إلا أنه كان الأصدق، تعودنا فى مصر من خلال متابعة جمعية (أنصاف الموهوبين) توجيه هجمة شرسة لكل من هو غير مصرى، وكأننا بصدد جريمة اغتصاب، تبدأ بتساؤل يبدو ظاهريا هادئا، ثم تنطلق بقوة من أجل الدفاع عن البضاعة المحلية ضد المستورد، وقد تجد صدى عند البعض، خاصة عندما يغيب المنطق، فتصبح الساحة مهيأة لتفشى تلك الحالة المرضية من (الشوفينية)، ويزداد الأمر ضراوة عندما يقترب الموقف من شخصية تنضح بالمصرية بل كانت ولاتزال عنوانا لمصر مثل جمال عبدالناصر.

وحيد حامد كانت لدية من المؤكد أسبابه، وعندما عرض الدور على ياسر وكما ذكر لى وحيد أن ياسر لم يسأله عن الأجر أو ترتيب اسمه على (التترات)، طلب أن يمنحه وحيد فسحة من الوقت لكى يقرأ ليس فقط السيناريو بتمعن فهذا بديهى، ولكن لكى يستعيد من خلال الكتب كل التفاصيل المتعلقة بعبدالناصر، تذكروا آخر كلماته قبل الرحيل فى حوار التليفزيون الأردنى، الثقافة هى التى تحمى الفنان، تذكروا أيضا أنه فى الأساس دارس موسيقى وعازف كلارنيت من المؤكد أن مثل هؤلاء يراعون لا شعوريا حالة الانسجام (الهارمونى) مع الشخصية التى من الممكن أن تحمل أكثر من نغمة.

دافعت عن حق ياسر فى أداء الدور، وقلت إن الشاشة عمليا لا تكذب وهى قادرة أن تكشف الزيف ببساطة وفى لحظات، والناس لا تعرف المجاملة، وانحازت بل صفقت الشاشة لياسر وصارت له من بعدها مساحة فى قلوب المصريين.

نجح رهان وحيد حامد وأيضا المخرج الشاب شريف البندارى، ومن البديهى أن ياسر كان سيواصل فى الجزء الثالث من (الجماعة) تقديم شخصية الرئيس جمال عبدالناصر والتى تأجلت للعام القادم.

لم أتصور عندما انتشر خبر الرحيل أنه استطاع أن يصنع كل تلك المساحة فى قلوب المصريين، فلقد كان يمتلك ومضة عميقة تعبر أولا عن الإنسان بداخله، إليكم مشهد الرحيل الذى يثبت أن الإنسان هو البطل دائما، فلقد كان يساعد أحد الجيران تعثرت عربته فى الطريق، لتأتى سيارة أخرى مسرعة فتحصد روحه، وداعا صديقى الذى لم ألتقه سوى على الشاشة، وداعا (ناصر الأردنى)!!

كتبه : طارق الشناوي في المصري اليوم

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى