“الجاحظ “مؤسس اقتصاد السوق وطارد المستثمرين / وليد حسني
لا اخالني أجافي الحقيقة العلمية المحضة إن قلت أن أعظم من كتب في العربية أبو عثمان الجاحظ ( ت 255 هـ ــ 872 م ) هو مكتشف نظرية العرض والطلب التي تشكل قوام الإقتصاد الجزئي، أو الأساس الذي تنبني عليه التنافسية المفتوحة في اقتصاد السوق.
ولست ممن ينفي عن نفسه صفة التعصب للجاحظ، فقد خبرته منذ أكثر من اربعين سنة بدأتها مستكشفا للرجل بقراءة البخلاء، وأنا لم ازل ادرج في ثياب الطفولة وحتى اليوم فلم أترك له وعنه شاردة او واردة إلا قرأتها وجمعتها وضممتها كأحسن ما يكون الجمع والضم لحبيب لا أستبدله بغيره، ولا أرى فيه غير ما يراه المحب في حبيبه، فلا يتسقط له عثرة، ولا يبحث له عن زلة، وكنت ولم ازل أراه مكتمل الأركان كمثقف طليعي، وصاحب فكر سبق فيه عصره وعصرنا.
في كتابه”التبصر بالتجارة ” وضع المرحوم الجاحظ قاعدة التنافسية، أو نظرية العرض والطلب قائلا ” إن الموجود من كل شيء رخيص بوجدانه غالٍ بفقدانه اذا مست الحاجة اليه “، وهي القاعدة الأساس” العرض والطلب ” التي يقوم عليها اقتصاد السوق المفتوح والتنافسية التي تضبط ايقاع الإقتصاد الكوني منذ أن بدأت التجارة حرفة يقوم عليها التجار، وتنبني عليها أسس الدول ويقوم عليها تدبيرالمعاش.
والمعاش هو التوصيف الذي استخدمه الجاحظ في وصف حالة التمدن والدولة والمجتمع في كتبه ورسائله، وعلى أساسه كان يقيس مدى التغيرات في مجتمعه وأسس هذا التغير ونتائجه، سابقا بذلك صاحب المقدمة عبد الرحمن بن خلدون(ت 1406 م) باكثر من 500 سنة.
ولست هنا بصدد المقاربة بين العقلين الجاحظي والخلدوني فمثلها ليس هنا، ولكن يكفيني التاكيد على ان رؤية الجاحظ لإشتراطات السوق في عصره، ورغبات المستهلك في حينه هي التي دفعته لإشتقاق قاعدته الإقتصادية التي أعدنا انتاجها واعتمادها بدءا بادم سميث عميد الاقتصاد الكلاسيكي وانتهاء بخيبات فريقنا الإقتصادي الأردني عالي الشأن، والذي نجهل على أية نظرية أو قاعدة يسوق اقتصادنا الهش.
والجاحظ هو نفسه الذي وضع اللبنة الأولى في أسس الإستثمار إذ يقول نقلا عن العجم” اذا لم تربحوا في تجارة فاعتزلوا عنها الى غيرها، وإذا لم يرزق احدكم بأرض فليستبدل بها “..
ويبدو ان المستثمرين الهاربين من الأردن يدركون تماما قيمة نصيحة ابو عثمان التي قالها قبل أكثر من 1200 سنة، ولا اظن ان منح الجنسية الأردنية ستساهم كثيرا في جلب الإستثمار وتوطينه، فتلك مهمة لا اظن أن قوانيننا تسمح لنا بتحقيق هذه الأمنيات السعيدة جدا، والبعيدة جدا أيضا..
نحن بحاجة لإعادة استكشاف عقلنا العربي، وثقافتنا ومنتجنا الفكري، وأظننا بحاجة أكثر هذا الأوان لإعادة استكشاف أعظم من كتب في العربية أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ..
ذات يوم في سنوات قليلة مضت تسببت بمحض الصدفة والنكتة معا في دفع أحد المدراء الأسبقين لدائرة المطبوعات والنشر باصدار قرار بمصادرة كتاب “مفاخرة الجواري والغلمان” للجاحظ ، بعد ان احتدم الجدل بيننا حول منع كتابي” وصايا الذبيح..” والمقدسات واليوتوبيات الثلاث التي كان المدير آنذاك يرفعها في وجهي قائلا “لا تكتب في السياسة، لا تكتب في الدين، لا تكتب في الجنس”، استفزتني فرددت عليه طالبا اصدار قرار فورا بمصادرة القران الكريم والكتاب المقدس ومنع تداولهما، ثم كتب الحديث والتفسير والأدب، وعندما استهول الأمر خطرت ببالي فكرة مصادرة الجاحظ وكتابه، وسألته كيف تسمح بتداول كتاب “مفاخرة الجواري..”. وانتهى الحديث بيننا الى هذا الحد..
نسيت الأمر تماما فقد كانت مجرد عملية تنكيت في حينه، لأفاجأ ان المدير أصدر كتابا بمنع ومصادرة كتاب” مفاخرة الجواري والغلمان ..”، ومبررا قرار المنع بأنه”يسيء للنشأ..الخ “، والذي كشف الكتاب لي خلفه مدير المطبوعات، وابطل الكتاب والقرار فورا.. وتلك قصة أطول من ان تروى..
اليوم تبدو نظرية الجاحظ المبكرة في اقتصاد السوق والتنافسية واشتراطات الإستثمار تضرب في عمق نهجنا الإقتصادي، ولا اظن ان المستثمرين الذين غادروا سوقنا حققوا الأرباح التي كانوا ينشدونها عندنا فتركونا بحثا عن أراض أخرى.