محمد كناعنة يكتب لـ نداء الوطن: يوم الأرض والاشتباك المَفتوح
كانَت النَكبَة وما زالَت، هيَ الجُرح النازِف والصَدمَة التي آلَمَت وأبكَت الحَجَر والبَشَر في فلسطين وجَسَد الأمّة، هي الإنهيار الذي أصابَ الناس بالذهول وعلى إثرِها تَشَتَّت أوصال الشَعب الفلسطيني إلى شَتات ولُجوء واستعمار كولونيالي يُسيطِر على 78% من مساحة فلسطين، وفي هذا الجُزء المُحتَل بقيَ ما يُعادل الـ120 ألف إنسان فلسطيني يقبع تحتَ الحُكم العَسكري الاستعماري للبَلَد، وفي ظِل الانهيار والانكسار للجيوش العربية والمُقاومة الفلسطينية أمام عِصابات الحركة الصَهيونية كانَت الصَدمة في فُقدان الأمل بعدَ أن تَبيّنَ لهؤلاء الباقين في أرضهم بأنَّ قرى ومُدن وأقارب وأهل ومؤسسات كانوا لهم على مرمى العَين قد اختفوا عن ناظريهم.
هذه الحالة التي نَصِف ليسَت من أفلام هوليوود وإنَّما واقِعنا لا نحنُ، من عاشَ تلكَ المرحلة يتحَدَّث عنها وقلبَهُ ينزف من هَولِها، ونحنُ نتحدَّث عنها ليسَ فقَط كَرواية تاريخيّة أو واقِع حَصَلَ وانتَهى الأمر، فَكُل ما نَتَجَ عن ذلك بَعدها هو نتاج لهذا الصِراع المفتوح ما قبلَ النكبَة، بِدءًا بوعد بلفور المشؤوم وقبلَهُ مؤتمر بال الصَهيوني ومقولة “أرض بلا شَعب لِشَعب بلا أرض” في إشارة إلى أنَّ أرضَ فلسطين هي أرض “الميعاد” خاليَة من السُكان لشَرعَنة الهجرة الصَهيونية إليها وقَرصَنَتُها، وَتوالَت المُؤامرات بعدَ ذلك من سايكس بيكو إلى صفقات الأنظمة العربية مع الصهاينة، إطار التآمر الرجعي العَربي على شعب فلسطين.
هُنا وفي هذه العُجالة لَن أخوض في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية وتشكيلات المُقاومة على مُختلف مُسمّياتها ما بعدَ الاحتلال عام 1948، ولكن منَ المُهم الإشارة إلى أنَّ الداخل المُحتل وتحديدًا مناطق الجليل والمُثلّث والنقب والساحل الفلسطيني كانَ في حالَة شبه انقطاع تام عن حراك الشَعب الفلسطيني المُقاوم من خارج حُدود فلسطين المُحتلّة، ما عدا بعض المجموعات التي ارتَبَطَت سابقًا بالمُقاومَة، والتي كانَت على تواصُل مع مجموعات الخارج، ومنهُم من كانَ مُرتَبطًا بحركة القوميين العَرب أمثال الشَهيد خالد أبو عيشة والشهيد علي الخربوش، وآخرين أمثال المُجاهد أبو إسعاف ابراهيم علي الشيخ خليل قائِد حامية شَعَب، وسعيد الصالح الأسدي أبو صالح ابن قرية شَعب الجليلية والقائمَة تَطول، نورِد هذه الأمثلة للتأكيد فَقَط بأنَّ رغمَ الانقطاع الحاصِل بفعلِ النكبَة إلّا أنَّ المُقاومَة بقيَت لها جذوة تُنير طريق العَودَة للاجئين إلى قُراهم ومدنهم التي هُجّروا وطُردوا منها عام 1948.
يَوم الأرض كانَ المَحطّة الفاصلة في مسيرة فلسطينيي الداخل بعدَ النكبَة، الحُكم العَسكري والإنقطاع عن باقي الشعب وحالة الخَوف والرهبَة من المجازر المُرتَكبة بحق القرى والمُدن المُهَدّمة وسُكانها بعثا على النُكوص والتَوَجّس من المواجهة، ورغم ذلك كانت بعض المواجهات على قضايا مَطلبية في عديد من المُدن والقرى وخاصة الناصرة الطيبة وغيرها، مع عدم إغفالنا هُنا لمجزرة كفر قاسم وأصدائها خاصّة وأنَّ أحداث النكبة ما زالَت شاخصَة أمام أعيُن الناس، وفي غَمرَةِ تَصاعُد المَشروع الصَهيوني وبعدَ احتلال باقي فلسطين في عدوان عام 1967، وانطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية حاملَة مشروع التحرير والانفتاح على باقي أجزاء الشعب الفلسطيني.
في غَمرة كُلّ هذا كانَ المَشروع الصَهيوني في أوجهِ، وما زالَ، في السَيطرَة على الأرض جوهر الصِراع وَلُبّهِ، وَكانَت المُخَطّطات الصَهيونية للسيطَرَة على ما تبقى من الأرض بأيدي الفلسطينيين وكانَ مشروع تهويد الجَليل والعَمل على زيادة نسبة اليهود المستوطنين على نسبة العَرب من سُلّم أولويات بن غوريون وغولدا مائير ومن لَحقهم من الحكام الصهاينة. وعلى إثرِ قرار مُصادرة الأراضي في منطقة المَل التابعة لعرابة سخنين وديرحنا أو ما يُسمى بالمصطلح العسكري الصهيوني “منطقة رقم 9” وعندَ إعلان هذا القَرار تصدت الجماهير العربية بقيادة لجنة الدفاع عن الأراضي وثُلّة من الرؤساء للسُلطات المحلية العربية وفي مُقدّمتهم رئيس مجلس عرابة المحلي المرحوم محمود نعامنة ورئيس بلدية الناصرة المرحوم توفيق زياد وآخرين مِمّن أيّدوا وساندوا ودعوا للإضراب العام، تَصَدّوا لهذا القرار بإعلان الإضراب العام في كُل المُدن والقرى العربية في الداخل المُحتل رغمَ تهديدات الإحتلال لَهُم ورغمًا عن أنف عكاكيز السُلطة وعُملائها، وفعلًا دخلَت القوات الصَهيونية إلى مُدن وقرى البطوف وباقي الداخل وكانَ الشهيد خير ياسين أول شهيد ليوم الأرض في المواجهة المفتوحة التي أعادت المعنى الحقيقي، الغائِب، للهُويّة الوطنيّة للفلسطينيين في المُحتل عام 48 وكانَت انتفاضة يوم الأرض عام 1976 هي الانتفاضة الأولى التي تَندلع كمواجهة مُباشرة معَ الاحتلال وتحتَ العُنوان الرئيسي للصراع برُمّتهِ مع الحركة الصَهيونية، الصراع على الأرض.
واليَوم ورغمَ إندحار وَنُكوص الحركة الوطنية الفلسطينية وتراجُع سقفَ مطلبها وأهدافها إلّا أنَّ جَوهر الصِراع لم ولن ينتهي، إذ أنَّهُ ورغمَ كل التنازلات التي قُدّمَت للحركَة للصهيونية من اعتراف بشرعية الاحتلال عام 48 والتنازل عن التحرير لدى التيار الرسمي والمُسيطر في الحركة الوطنية الفلسطينية، ما زالَت أطماع الحركة الصَهيونية مُستَمرّة في السيطرة على مَزيد من الأرض. ففي معركة الأرض نحنُ في موقع الخاسِر، الأرض كَكُل وليسَ منطقة المَل لوحدها، والحركة الصَهيونيّة في موقع المُنتَصر حاليًا، وبإجراء جَولَة صغيرة على ما صودرَ من لحظة توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم حتى اليوم سنرى حجم الكذبة التي يُحاول البعض أن يجعلنا نُصدّقها في وجود سُلطة “وطنية” وسيادة.
الوجه الآخر ليَوم الأرض وجهٌ مُشرقٌ حَتمًا، الهُويّة، فكل محاولات التشويه ورغمَ كُل ما قد يُقال في هذا الصَدّد فإن الهُويّة الوطنية حافَظت على ذاتها وكانَت معركة الوَعي وما زالَت هي المعركة الأساس والحصن الأخير الذي وجبَ علينا ليسَ فقط عدم خسارتهِ بل والإنتصار بهِ وَلهُ بكل قوة وعزيمَة، وفي الصراع على الأرض-البقاء- يبقى صراعًا مفتوحًا واشتباكًا طويلًا لَن تنطفئ جَذوتَهُ ما دامَ هُناكَ احتلال واستعمار وما دامَ هُناكَ طفلٌ يُقاوم.
معًا على الدرب
محمد كناعنة أبو أسعَد – الأمين العام السابق لحركة أبناء البَلَد وعضو المكتب السياسي حاليًا
عرابة البطوف / فلسطين