مقالات

د . الحموري ينعى دستور 52

كتب الأستاذ الدكتور محمد الحموري

عدت بالأمس من تونس بعد حضور اجتماعات المؤتمر القومي العربي. وخلال وجودي هناك تلقيت عشرات المكالمات والرسائل من أجل أن أتحدث عن التعديلات الدستورية المقترحة. ورغم إحساسي بالقهر من هذه التعديلات، إلا أنني امتنعت عن الحديث حتى أعود، وأكتب رأيي بهدوء، بعد صدمتي من هذا الذي يجري.

وكأستاذ في القانون منتمٍ إلى وطنه، وأمضى عمره وهو يحلم بقيام نظام برلماني وملكية دستورية في الأردن لنكون قدوةً لدول الوطن العربي، أقول:

1) لم يعد أمام أساتذة القانون وأساتذة العلوم السياسي، سوى القول لطلابهم وهم يشرحون دستورنا بعد أن تسري هذه التعديلات المقترحة، أننا أصبحنا أمام نظام دستوري فاقد الوصف والهوية، في فقه الأنظمة السياسية التي يعرفها العالم. فلم نعد نظاماً برلمانياً، لأن هذا النظام يقوم على الفصل بين المُلْك والسلطة، المُلْك مصدره التوارث والسلطة مصدرها الشعب، وهذا ما تنص عليه المادة (24/1) من دستورنا. ولأن الشعب في هذا النظام هو صاحب السلطة، ويمارسها من خلال مجلس نيابي يجسد إرادته في التشريع والرقابة، ويعطي الثقة لحكومة تمارس سلطة التنفيذ كصاحبة ولاية عامة، فإنه ليس للملك أو رئيس الدولة سلطة ينفرد بممارستها دستورياً في النظام البرلماني، سوى وقف تعديل الدستور. ولأن من يمارس السلطة هو الذي يمكن أن يقارف خطأ يجعله محل مساءلة ومحاسبة، وكان الملك لا يمارس سلطة في الدستور، فقد استتبع ذلك بحكم اللزوم الدستوري، حصانة تعفي الملك أو رئيس الدولة من كل تبعة ومسؤولية، وحماية تلك الحصانة بجريمة إطالة اللسان، إذ ما دام الملك أو رئيس الدولة لا يمارس سلطة، فلا يقع منه خطأ يستوجب مسؤوليته، مما يقتضي تجريم التطاول عليه.

2) وقد استقر هذا الركن الذي يجعل أساس الحصانة عدم ممارسة السلطة، في النظام البرلماني الذي صدّرت بريطانيا توازنه للعالم في عهد جورج الثالث منذ عام 1770، وسادت قاعدة تعبر عن ذلك تقوم “The King can do no wrong” أي ‘الملك لا يخطئ’، فإن غاب هذا الركن، فقد النظام البرلماني هويته. وحتى لو أصدر الملك أمراً لرئيس وزرائه أو وزيره ونفذه، ثم تبين أنه خطأ، فإن الملك يظل معفى من المسؤولية، لأن الرئيس أو الوزير يصبح هو المسؤول، وكان بمقدوره أن يتجنب هذه المسؤولية عن طريق ممارسة حقه في عدم تنفيذ الأمر. وأساس هذا الحق، هو أن شرائع السماء والأرض تمنع إجبار أي إنسان على مقارفة خطأ ليصبح مسؤولاً عنه، وقرآننا الكريم يقوم ‘ولا تزر وازرة وزر أخرى’ (الزمر، 7).

3) هذه هي القواعد الأساسية الكلية والثوابت التي قام عليها الدستور الأردني عند صدوره عام 1952. ورغم الجروح وعمليات التشويه التي ألحقتها به التعديلات اللاحقة، والتفسيرات الشاذة التي أرادتها الحكومات لعديد من نصوصه، إلا أن جسده ظل يحمل ملامح النظام البرلماني، وظل الأمل في إعادة الحيوية إليه في قادم الأيام ممكناً، لتصبح نصوصه وواقعه التطبيقي نموذجاً يحتذى في الدول العربية. لكن يد المنون أخذت تمتد إليه، فكانت أول الرصاصات القاتلة للنظام البرلماني الذي يجسده دستورنا، قد أطلقت عليه في 1/9/2014، عندما تم إخراج تعيين قائد الجيش ومدير المخابرات من الولاية العامة للحكومة، لتدخل في الصلاحية المفردة للملك. ويومها كتبت مقالاً بعنوان ‘أوقفوا هذا العبث والانقلاب على الدستور’ نشرته الصحف الإلكترونية بتاريخ 17/8/2014. أما اليوم فنحن أمام تعديلات دستورية تعطي الملك صلاحية منفردة، إضافة إلى تعيين رئيس الوزراء والوزراء، يعيّن بمقتضاها سلطة تشريعية، وسلطة قضائية، وكبار المسؤولين التنفيذيين في الدولة، لتشكل هذه الصلاحية الجديدة تناقضاً صارخاً مع القواعد الكلية في دستورنا، وتصبح طلقة الرحمة على نظامنا البرلماني.

4) إنني أتساءل: ما هي الأسباب والدوافع وراء ما يجري من عبث بالدستور، فهل حدث أن عُيّن قائد جيش أو مدير مخابرات أو قائد درك، أو رئيس قضاء أو قضاه أو أعيان، لا يرغب بهم الملك؟ ألم يسكت الجميع عندما صودرت الولاية العامة من الحكومة، وعُطلت المواد (45، 47، 51) من الدستور، أملاً بأن يأتي اليوم الذي تُفعّل فيه هذه المواد، فلماذا يعدل الدستور لقتل هذا الأمل؟

5) إن النظامين البرلماني والرئاسي في هذا العالم، قاما على أساس مبدأ جوهري يحقق التوازن فيهما وهو، مبدأ ‘تلازم السلطة والمسؤولية’، ولست أدري من نصح دولتنا بإعطاء الملك سلطات ينفرد بها ويفصل تحمل المسؤولية عن من يمارس السلطة في الدستور، ليخرجنا من عائلة النظام البرلماني.

6) ثم إننا لم نعد حتى ملكية رئاسية، لأن النظام الرئاسي الذي يعطي سلطة لرئيس الدولة، يجعله مسؤولاً عن ممارستها بنصوص واضحة في الدستور.

7) أدرك جيداً أن الملك بموجب المادة (30) من الدستور محصن من كل تبعة ومسؤولية عن أفعال من يعينهم منفرداً، لكن هذه الحصانة لا تغطّي المسؤولية الدولية عن أفعالهم في موضوعات حقوق الإنسان، وغيرها من الأفعال التي تخضع لاختصاص القضاء الدولي، فهل فكر النصاح والشطار في هذه المحصلة الكارثية!! ثم إن القول بإلغاء الحظر على مزدوجي الجنسية هدفه الإفادة من كفاءات هذا النوع من الأردنيين، هو عذر أقبح من ذنب، لأن أصحاب الكفاءات العلمية في الأردن من ذوي الجنسية الواحدة، لا يكترث بهم أحد، رغم أن أعدادهم تستعصي على الحصر!!

8) لقد فكرت طويلاً في هذا الذي نحن مقدمون عليه من تعديلات دستورية، وخاصة تلك التي تركز السلطات في يد الملك، والسير على طريق يوصلنا إلى دستور الشخص الواحد ودولة الشخص الواحد، فوجدت أن الملك بأمس الحاجة إلى عقول تفكر مع عقله لمصلحة الشعب والوطن، وليس إلى سلطات ينفرد بها ويستمد النصيحة بممارستها ممن حوله، ذلك أن محصلة الواقع الذي عشناه تقطع بأن عقول البطانات والحلقات العليا التي أوصلتنا إلى حال اليوم، تفتقد إلى سوية تفكير رجال الدولة، وطال هذا الحال ولا يزال مستمراً.

9) ثم ما هي الحكمة من وضع الملك في مواجهة مباشرة مع شعبه؟ فالمواطن كان من حقه أن يوجه النقد إلى الحكومة بشأن عدم سلامة القرارات التي يُعين بموجبها من طالهم التعديل، أما الآن، فقد أصبح القرار للملك وحده، فهل المطلوب من المواطن عند ممارسته لحقه الدستوري في النقد، توجيه ذلك للملك وتحمل عقوبة جريمة إطالة اللسان؟

10) وهنا لا أملك إلا أن أتساءل: هل أصبحت أوراق الملك ومطالب الأردنيين بشأن الحرية والديمقراطية والملكية الدستورية، تشكل خطراً على دول المال التي تُحكم بنهج العصور الوسطى، وأولياء الأمر من طويلي العمر الذين استخلصوا من الإسلام كعقيدة، أن طاعتهم من طاعة الله، وغدوا أصحاب عصمة، وأن من يخالفهم يخرج من الملّة؟ وهل بعد شراء وسائل الإعلام والأقلام والأزلام، دخل طويلوا العمر إلى مرحلة شراء ثوابت الدول وقيمها لتنحني وتقتدي بهم، فأصبحت لهم أزلامهم في الدول لتسويق السير في هذا الاتجاه، وتذكير من يعاند، بدورهم في سوريا والعراق وليبيا ولبنان، فلعله يتعظ؟ ألا تستدعي هذه التساؤلات أو تستوقفنا للتفكير ملياً في الحديث المطول للشيخ حمد بن جاسم لجريدة الفاينانشل تايمز يوم 15/4/2016، وما فيه من دلالات لا تحفى على طلاب مدارسنا؟

في عام 1989، أعلن المرحوم الملك حسين أنه جاء الوقت لخروج الأردن من مرحلة الأحكام العرفية والدخول إلى الديمقراطية بانتخابات حرة ونزيهة. واستوقف هذا الاعلان، ولي أمرٍ وطويل عمرٍ معصومٍ بسبب ثراءٍ فاحشٍ يجعله غير خاضع لمساءلة أو حساب، فالتقى جلالة الملك حسين وقال له، إن شعبك يعاني من ضيق ذات اليد وليس من غياب الديمقراطية، ولعلاج احتجاجات شعبك أخبرني عن عدد المليارات التي تحتاجها لتسعد شعبك بالمال بدلاً من الديمقراطية، وسأدفعها لك في الحال. فأجابه الملك بأدب جم، دعني أفكر بالأمر مع رجال الدولة عندي، وسأعلمك بالنتيجة. وبعد ذلك شكره الملك حسين، وأعلمه أنه لا يستطيع التراجع عن ما وعد به شعبه!! وهكذا عشنا أربعة أعوام في حالة ديمقراطية من عام 1989 وحتى عام 1993، حيث صدر في هذا العام قانون الصوت الواحد لينهي تلك المرحلة، ويجرّف الأردن من رجال الدولة والسياسة لتحل مكانهم عقول وظيفية، تتسابق على الانتفاع من الكراسي، لكنه ومع ذلك، ظل الأمل قائماً بأن السياسي رجل دولة سيعود يوماً للقيادة عن طريق تفعيل نصوص الدستور، ولم نكن نعلم بأنه ستأتينا حكومات وسلطات، تحمل المعول لهدم نظامنا البرلماني، وقتل الأمل في ملكية دستورية حقه وعدنا بها جلالة الملك عبدالله.

وأخيراً أقول:

يا دولة الرئيس، يا وزراءنا، يا نوابنا، يا أعياننا، أدرك أن جهات أخرى، يمكن أن تكون وراء هذه التعديلات الدستورية التي تلغي مفهوم العقد الاجتماعي الذي يجسده الدستور، وتجرد نظامنا السياسي من الثوابت المستقرة فيه، وتجعلنا نترحم على النظام البرلماني الذي كنا نأمل فيه، رغم أن بينكم من أعلم علم اليقين، أنه يعرف الخلل الذي ستحدثه التعديلات في نظامنا الدستوري. إنني أناشدكم الله أن لا تسيئوا بهذه التعديلات إلى ملككم وشعبكم ووطنكم، وأن لا تستمعوا إلى أصوات المنتفعين ومن يصفقون حسب الطلب وغيرهم من كتاب يأكلون على كل الموائد، ويبدلون جلودهم في اليوم مرات ومرات. أناشدكم الله أن تطووا صفحة هذه التعديلات، وبغير ذلك ترحموا معي على ما تبقى من دستور 1952.

اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى