لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
آراء ومقالات

50 عاماً على استشهاد غسان كنفاني ولميس

في يوم حزين وحار، الثامن من تموز 1972، امتدّت يد الغدر الصهيونية لتنال من قائد ومناضل وأديب ومثقف نقدي كبير، الشهيد غسان كنفاني وابنة أخته لميس.

كان يقيم في حيّ الحازمية في مدينة بيروت، وتوجّه صباح ذلك اليوم إلى مكتبه في مجلة «الهدف»، وطلبت منه لميس، التي كانت تقوم بزيارة لبيروت، أن ترافقه في رحلته.

دخل إلى السيارة وقام بتشغيلها وكانت المفاجأة، انفجار هائل مزّق جسد غسان ولميس إلى أشلاء. وتناقلت وكالات الأنباء الخبر المؤلم، الذي هزّ مدينة بيروت.

كنت قادماً من سوريا في زيارة لأبناء عمّي في مدينة صور (مخيّم البص) وسمعنا الخبر ولم نصدّق أن غسان، ابن الـ 36 عاماً، قد فارق الحياة وأضحى شهيداً. ذهبت إلى بيروت وشاهدت الحزن على وجوه الناس، سواء من عرف غسان أو لم يعرفه، وفي اليوم التالي كان التشييع المهيب الذي شاركت فيه حشود كبيرة من أبناء الشعبين اللبناني والفلسطيني، وحملني أحد الشباب على كتفيه وكنا نهتف «بالروح بالدم نفديك يا شهيد»، «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين»، «بالروح بالدم نفديك يا غسان».

وفي مقبرة الشهداء في بيروت، وأمام الضريح الطاهر، ألقى المناضل التاريخي الكبير أبو ماهر اليماني، والدموع تنهمر من عينيه، كلمةً باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» قال فيها: نموت واقفين ولن نركع، وألقى الشهيد الشاعر الكبير كمال ناصر قصيدة رثاء تحدّث فيها عن غسان ومناقبه. لا يمكن أن ننسى لحظات وداع الشهيد غسان، وستبقى هذه اللحظات محفورة في الذاكرة والعقل والقلب والوجدان.

غسان كنفاني مثقف نقدي من نوع خاص، امتلك رؤية فكرية وسياسية وأدبية ثاقبة جعلته هدفاً يجب التخلص منه واتُخِذَ القرار وعلى أعلى مستوى من الكيان الإسرائيلي، لأنهم أدركوا ما يمثّله غسان، بقدراته ومواهبه الإبداعية العميقة، على مستويات مختلفة ومتعددة، في وقت كانت فيه الثورة الفلسطينية في حالة مدّ وصعود، وكانت القيادة الصهيونية تدرك حجم وتأثير شخصيات فلسطينية ثقافية كبيرة، أمثال الشهيد كمال ناصر، والمفكر أنيس صايغ والشهيد ناجي العلي، في بلورة وتوجيه وعي الشعب واستنهاضه في المواجهة والمقاومة.

لقد أسس غسان مجلة «الهدف» عام 1969، وكان قد عُرِضَ عليه تولي مسؤولية مجلة فلسطين الثورة الناطقة باسم «م. ت. ف.» لكنه اعتذر بسبب انشغاله بتأسيس «الهدف»، الناطقة باسم «الجبهة الشعبية». وكان لمقالات غسان العميقة، ومجلة «الهدف»، دور أقلق الدوائر الصهيونية التي فهمت جيداً مدى تأثير هذه المقالات في وعي الناس وتصعيد المقاومة.

لقد كان غسان، في أوائل السبعينيات، أوّل من تحدّث عن وهم الحلول السياسية، ووهم الدولة الفلسطينية عبر الحلول والتسويات المخادعة، مؤكداً ألا تعايش مع الغزوة الصهيونية ومشروعها الاستعماري الوظيفي في المنطقة.

وكان أوّل من حذّر من خطر التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وأوّل من اكتشف أدباء وشعراء الأدب المقاوم في الأراضي المحتلة عام 1948، وعمل بكل جدّ ومثابرة لإبراز هذا الأدب وهؤلاء الشعراء، وكان أوّل من شجّع ودعم الشهيد الكبير ناجي العلي في إبداعاته ورسوماته الخالدة.

لقد كان غسان قريباً جداً إلى قلب وعقل القائد المؤسّس لـ«الجبهة الشعبية» الدكتور جورج حبش، كما كان قريباً جداً إلى عقل وقلب الدكتور وديع حداد وأبو علي مصطفى وأبو ماهر اليماني وهاني الهندي، وأدّى دوراً أساسياً في مساعدة الحكيم على صياغة أهم وثائق الجبهة، وفي مقدّمتها الاستراتيجية السياسية والتنظيمية للجبهة الصادرة عام 1969، والتي تشكّل إلى اليوم رؤية ثاقبة في إدارة الاشتباك والصراع التاريخي المفتوح والمتواصل مع المشروع الصهيوني، حين أكّدت أن مواجهة هذا المشروع والانتصار عليه تبدأ بالإجابة عن سؤال أساسي وجوهري يحدّد من هو العدو ومن هو الصديق في معركة تحرير فلسطين. وقالت إن العدو يتجسّد في الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والمشروع الصهيوني، وكيانه المادي المتجسّد في دولة الاحتلال، إضافة إلى الرجعية العربية التي ترتبط مصالحها مع المصالح الإمبريالية في المنطقة، وقد أكدت الحياة صحة هذه الرؤية اليوم بصورة أوضح من أي وقت مضى.

إن الشهيد غسان كنفاني لم يكن روائياً وكاتباً وصحافياً ورساماً مبدعاً فقط، بل كان قائداً سياسياً لامعاً وعضواً في المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية»، وكل هذه الصفات التي جمعها جعلت منه هدفاً ثميناً لعصابات القتل والإرهاب الصهيونية.

بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد غسان، نقول له إن غيابك لم يكن إلا حضوراً من نوع جديد، وستبقى في ذاكرة شعبنا وأمّتنا جيلاً بعد جيل، لأن الشعوب العظيمة لا تعتبر الشهداء من أبطالها مجرّد ذكرى، بل معالم ومشاعل تشقّ الطريق الصعب نحو الحرّية والكرامة والأهداف السامية.

وفي الذكرى الأليمة لاستشهاد غسان، لا بد من رسالة تحيّة إلى زوجته الوفية آني كنفاني التي أمضت حياتها وبكل مثابرة وإخلاص لإحياء تراثه عبر مؤسسة غسان كنفاني التي جمعت كل كتاباته وإبداعاته وترجمتها إلى العديد من اللغات العالمية.
عهداً يا غسان أن نواصل الطريق لتحقيق كل الأهداف النبيلة والمبادئ التي ناضلت وقضيت في سبيلها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى