اليونان تخوض معركة أوروبا…فهمي الكتوت
لم يجد حزب سيريزا اليساري الذي فاز في الانتخابات النيابية الشهر الماضي متسعًا من الوقت للاحتفال بهذه المناسبة التاريخيّة، فإن يحصل حزب يساري على أغلبيّة نيابيّة تمكنه من تشكيل حكومة ليس بالأمر العادي، في ظل منظومة من القوانين والمؤسسات التي أنشأتها الرأسماليّة على مدى قرون، ليس في حدود الدولة اليونانية فحسب، بل وفي ظل سطوة العولمة الرأسمالية وتشابك مصالحها، إضافة إلى الروابط المتعددة التي تتحكم بعلاقاتها وتوجهاتها الدوليّة. فاليونان عضو في الاتحاد الأوروبي، وضمن مجموعة دول اليورو، وعضو في الحلف الأطلسي. ومثقل باتفاقيات مجحفة مع صندوق النقد الدولي ودول الاتحاد الأوروبي. ولليونان تجارب سابقة في هذا المضمار، فقد سبق واقترب اليسار اليوناني من الحكم مرتين، وأبعد بالقوة، المرة الأولى عن طريق التدخل الأجنبي بعد الحرب العالمية الثانية، والمرة الثانية باستيلاء الجيش على السلطة في عام 1967.
كانت الحكومة الجديدة على موعد مع سلسلة من المفاوضات الشاقة والصعبة، التي ستقرر مصيرها السياسي، ومستقبل اليونان الاقتصادي، فقد فشلت الجولة الأولى من المفاوضات مع وزراء مالية دول الاتحاد الأوروبي، التي جرت الأربعاء الماضي في بروكسل، بسبب إصرار الاتحاد الأوروبي على تمديد برنامج الإنقاذ المالي، في حين انتخبت حكومة سيريزا اليونانية على خلفية رفضها لبرنامج الإنقاذ الذي فرضته الترويكا على اليونان. حزب سيريزا حزب جديد صعد نجمه واتّسعت شعبيته في السنوات الأخيرة وحصل على أعلى الأصوات في الانتخابات المبكرة التي جرت الشهر الماضي على خلفية برنامجه الراديكالي، ورفضه السياسات الاقتصادية التي كانت سائدة، والتي تسببت بانهيار الاقتصاد اليوناني. والخضوع لإملاءات الترويكا (صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبيّة) الأمر الذي أدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية وإفقار الشعب اليوناني وارتفاع معدلات البطالة.
ومن المتوقع أن تكون الجولة الثانية من المفاوضات صعبة ومعقدة، يحاول كل طرف التمسك بموقفه، فالحكومة اليونانية لا تستطيع تجديد برنامج الإنقاذ المالي قبل إجراء تعديلات جوهرية عليه، وهي التي حصلت الشهر الماضي على تفويض شعبي عبر صناديق الاقتراع لوقف السياسات الاقتصادية الليبرالية المجحفة بحق الشعب، ووقف سياسة التقشّف التي حملت الشعب اليوناني أعباء الأزمة المالية والاقتصادية، والمتمثلة برفع الضرائب وتخفيض الأجور وتقليص الخدمات العامة في موازنة الدولة. من جهة أخرى يخشى الاتحاد الأوروبي التراجع عن برنامج الإنقاذ المالي من تشجيع شعوب الدول الأوروبية التي ستحذو حذو اليونان، برفض سياسات التقشّف التي فرضت عليها، وإسقاط الحكومات الليبرالية، فالمعركة التي تخوضها اليونان لها أهميّة خاصة ليس على المستوى اليوناني فحسب، بل وعلى المستوى الأوروبي عامة، فهناك دول أوروبية تعاني من أزمات حادة، وبعضها خضع لإملاءات الترويكا (قبرص، أيرلندا، أسبانيا، البرتغال، إيطاليا).
لقد خرج الشعب اليوناني بعد فشل الجولة الأولى من المفاوضات بمسيرات جماهيرية تأييدًا لحكومته في المفاوضات واحتجاجًا على إصرار الاتحاد الأوروبي بفرض شروط على اليونانيين تفوق طاقاتهم، مطالبًا بحقه في الحياة. فالخيارات المطروحة أمام الحكومة اليونانية صعبة، فهي ورثت تركة ثقيلة من الحكومات السابقة مثقلة بالديون التي وصلت نسبتها إلى حوالي 175% من الناتج المحلي الإجمالي وتعاني اليونان من معدلات بطالة تقدر نسبتها أكثر من 25%، وتتضمن مطالبات الحكومة اليونانية في المفاوضات شطب جزء من الديون فهي غير قادرة على السداد، قوبل الطلب اليوناني بالرفض المطلق من قبل ألمانيا، وهي ترى أنّ التقشّف الوسيلة الوحيدة لتعزيز القدرة التنافسيّة للاقتصاد اليوناني لرفع معدلات التصدير وتخفيض معدلات التضخم.
ومع ذلك، ورغم صعوبة المفاوضات إلا أنّهما لا يحبذان الوصول إلى طريق مسدود، تؤدي إلى خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي والتخلي عن العملة الأوروبية الموحدة، فهناك عدة سيناريوهات مطروحة في النهايات، منها التوصل إلى حلول وسط تضمّن توزيع الخسائر على الطرفين، لا أحد يحتمل انهيار المفاوضات خشية من تبعاتها الثقيلة، فالاتحاد الأوروبي في وضع لا يحسد عليه، ولا يحتمل خطوة قد تفتح الطريق أمام انهيار اليورو. بالمقابل ومع مراعاة موقف الحكومة اليونانية برفض إملاءات الترويكا وبرنامج التقشف، فهي تخشى من تبعات الفشل الذي يحمل في طيّاته ضغوطات اقتصاديّة ومالية منها وقف البنك المركزي الأوروبي تمويله الطارئ للنظام المصرفي اليوناني بعد انتهاء العمل ببرنامج الترويكا في نهاية الشهر الجاري. وأنّ التلويح بالحصول على مساعدات من روسيا والصين هي أوراق للضغط على الترويكا في المرحلة الحالية لتحسين شروطها في المفاوضات، لكنها قد تكون الملاذ الأخير للحكومة اليونانية التي تواجه خيارات صعبة، خاصة أنّ الصين وروسيا أبدتا استعدادهما لتقديم الدعم بما في ذلك توفير فرص استثماريّة.