مقالات

وحدها النكبة ناطقة/ بقلم: مروان عبد العال

وحدها الضجة التي تحدث عادة في حمى الاحتفالات وعلى وقع نبرات الخطابات المرتفعة والصاخبة، لا يمكنك معها التمييز الدقيق بين الكلمات حتى تكاد أن تقول كل شيء واللا شيء معاً ويضمر وسط الصراخ فحواها ومضمونها ومعناها، فلا تعد بعدها تعرف إن كانت فرحاً أم ترحاً.

تتشابه دقات الطبل أكثر كلما ازدادت قرعاً وأفرغت ما في صدور المحتشدين في دائرة الرقص. هكذا وبعد 68 عاماً على النكبة، تكشف أن ليس القدر وحده من جعل منها مناسبة سنوية يتم إحياء طقوسها بصور بمشاهد ورموز تجسد حالها وتستدعي ذكراها وسيرتها الأولى وأنها لها أب وأم ثم تولد وتحيا وتنمو وتترعرع وتكبر وبلغت من العمر عتياً وتنجب أبناءً وأحفاد.

لذلك هي النكبة المستدامة الباقية والحية والتي لا تتكل على من يحتفي بها وقد “أدخلتنا في التجربة” رغماًعن أنوفنا، والنكبة لا تحتاج لناطق باسمها لأنها وحدها ناطقة صريحة بذاتها وذواتها وبكل يومياتها وأوجاعها وآلامها المتأصلةوهنا المخيم ليس الشاهد على جريمة حصلت بل هو الابن البار للنكبة، وفيه ينعكس التقاطع المزدوج بين القدر والصدفة، القدران تكون فلسطينياً، وحسب كلمات شاعرنا العظيم محمود درويش: “أنْ تكٌون فلسْطِينيا ًيَعْنِي أَن تٌصاب بِ أَملِ لا شِفآء مِنه”…

قدر المخيم أن يعاند النسيان في “مبارزة كبرى” يقاوم فيها كي تكون له الغلبة، أقلها تحقيق شرعية البقاء بصيغة سياسية تسمى “حفظ الوجود” والبقاء ليس كواقع فيزيائي بل كنسيج مجتمعي. يعاند المستحيل ومعه مكوناته وشخصيته الوطنية كشعب مقتلع يتعلم في كل حارة وزقاق كيف يصون الهوية المهددة من كل حدب وصوب بالتبديد والضياع والاختطاف. متوجساً من صدأ الذاكرة التي تحملها الأجيال. كأمانة من جيل ولد قبل النكبة، قيل عنه بصدق “الجيل الأكبر من إسرائيل” .. ومن سنن الحياة أن يدخل باب الموت ويترك لنا الحكاية ومفتاح البيت والحق وأيضاً سلاح الإرادة التي تدرك معنى قوة الحق، وأن الطغاة مهما كانوا أقوياء لكنه ليس أقوى من الحق، وأن الباطل ليس قدر العالم!

صوت القدر الذي يعيشه كل جيل يمر من هنا، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من كتب على شاهد قبره وصية الأرض، ارتبط بأصل الصراع وفصله والذي يحل دون أم القضية، قضية اللاجئ التي تحل بغير حقه المشروع في العودة! إن إعادة إنتاج المأساة ستؤدي عاجلاً أم اجلاً إلى دورة جديدة من الثورة، فالنكبة الجديدة حكماً هي مقدمة جديدة إلى تجديد حالة التمرد والانفجار..

الوقائع تجري لطمس دلالة المخيم، مسح الأدلة وإخفاء القرائن وآثار النكبة، يظن القاتل واهماً أن إخفاء جثة القتيل يعني أنه لا يوجد هناك جريمة. سرقة وتغيير المعالم لو استطاع عن طريق مصادرة مضمون المخيم وتحويله من حاضن للهوية إلى نابذ لها بهدف تصفية قضية اللاجئين وما التقاطع اللوجستي الواضح بين المسعى الأمني بطابعه الإرهابي، واقتصادي بواقعه المعيشي، والاجتماعي الظلامي الرهيب إلا الشاهد الحي الذي تديره غرف دولية سوداء تمارسه سياسات متنقلة من مخيم إلى آخر، يبدأ بممارسة ثقافة الكراهية لترسم له صورة الجلاد وليس الضحية، وتحويله مجرد بؤرة خطرة وفزاعة ضد المحيط وأن المخيم عود ثقاب جاهز لمن يريد أن يشعل حريقاً. من يفعل ذلك ليس ضد فلسطين فقط بل هو سليل آباء النكبة ورعاتها وأصحابها ودعاة تخليدها مهما كانت هويته أو دينه وجنسيته.

بعد أن جاوزت سن التقاعد لكنها لم تهرم تستمد من عجزنا إكسير حياتها، من استمرار الظلم والاستبداد والتسلط وبالاحتلال ونكران الحق والضعف والتشتت، وربما أسوأ النماذج للفشل الدولي بأنها تقوى تستمر وتتواصل وتتكرر النكبة بالخديعة عبر استمرار استمرار العدوان والقتل المتدرج للضحية كأنه اطلاق نار متواصل على ذات الجسد، لصاحب الحق أولاً، وإخراس الشاهد الدولي ثانياً، ومثله البسيط المجتمع الدولي وبصيغة وكالة الغوث الدولية (الأونروا) ومن خلال تقليص خدماتها وتخليها عن دورها وإجبارها على استحداث سياسة جديد توائم برنامج الجلاد وليس الضحية.

هل هي مجرد صدفة؟ النكبة حصلت واستمرت كحالة وجع لا ينحصر في فلسطين وحدها بل عوارضها تتبدى في احتلال هوية المنطقة وتغيير الهوية العربية، لأنها كلما طال عمرها حتماً تنتشر كفايروس في كل الجسد، فالمسألة  ليس فقط بإخراجنا من فلسطين بل إخراج فلسطين منا ومن التاريخ كما الجغرافيا ومن الماضي قبل المستقبل.

ليس صدفة أنها تتوالى وتتضاعف بضعفنا ويزداد جرحها ويتسع ويتفشى بأمراضنا، لأنها مستمرة طالما مقدمات وقوعها مستمرة. وتستمد قوة حضورها من تسويق أفكار الانحطاط والتخلف والفتن الداخلية، يوماً خاطب “بن غوريون” محاربيه بعد حصول النكبة مباشرة: “أنكم لم تنتصروا بسبب قوتكم بل بسبب تفسخ وتخلف وضعف عدوكم” إعادة انتاج التخلف يؤدي إلى إعادة إنتاج النكبة، هكذا يمر عبر تمزيق الفكرة الجامعة ومن خلال نموذج تصنيف الناس على قواعد جهوية وأسس مذهبية واثنية، محاولة لتدمير البُنية الثقافية الواحدة والهوية الواحدة، لذلك إقامة هذا الكيان واستمراره في قلب الأمة شكل كارثة عربية لا زالت فصولها تتوالى، وإبقاء حالة الانقسام تتحكم بالمشهد العربي والفلسطيني خصوصاً أي إبقاء الواقع الذي من يسهم بإعادة إنتاج النكبة وليس مغادرتها.

وحدها النكبة ناطقة، لعلّها تحوير لما قاله الروائي العالمي (ميلان كونديرا) “وحدها الصدفة يمكن أن تكون ذات مغزى، فيما يحدث بالضرورة ما هو متوقع ويتمرر يومياً ويبقى شيئاً أبكم. وحدها الصدفة ناطقة.

تتضاعف تداعيات النكبة وتتراكم عبر السنوات عندما تتعمق حالة اليأس بفعل اختلاق الحروب العبثية لتفتيت هوية مخيماتنا وعواصمنا ورايات مشبوهة وعبثية مدمرة، تتحول مخيمات الشقاء إلى مكان نابذ للقضية وأبناء فلسطين بدل أن يكون العكس، تستمر في اتباع استراتيجية معادية محكمة واستخدام القوة المتنوعة لجعل الهدف يدمر نفسه بنفسه.

وحدها النكبة صوتها مسموع ويصدح أعلى من ضجيج خطابات المنابر، وإخراجها المتقن في مسرح اللامعقول: إن بعض جيوش العرب تقاتل بعض جيوش العرب! كم نكبة نحتاج كي نستيقظ من غيبوبة الجهل؟ ومتى يبدأ سفر الخروج من نكباتنا الذاتية؟ المستوحاة من الخيارات البائسة على نبض سياسة الارتهان والانحطاط السياسي. لن نغادر النكبة بلا صدمة كبرى واستراتيجية وعي مقاوم وشامل يستكين ويسد الجبهات الفارغة بالفكر والثقافة والذاكرة وبسلاح الحق والإرادة وتكون فلسطين بمعناها ورموزها ودلالاتها ومقاومتها هي غاية الأمة، لأن النكبة برموزها وأقانيمها ومسمياتها ستظل هي التعبير الأكثر كثافة عن حقيقة الصراع وهدف تحرر الأمة وحريتها وتقدمها ومستقبلها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى