مقالات

هل هي رؤية نقابية قاصرة.. أم مخطط مدبر؟!

ماذا يجري في نقابة الأطباء؟

نبدأ بإدراك حقيقة ما يجري في نقابة الأطباء على الخصوص، بالنظر إلى السياسات الحكومية المتساوقة مع إملاءات صندوق النقد الدولي، والتي تستهدف بالخصخصة، قطاعي التعليم والصحة كأولوية.

لهذا السبب، هناك اشتباك وتوتير دائم مع نقابة المعلمين، وفي القطاع الصحي قطعت الحكومة خطوات واسعة وتهيأت لاستكمال برامجها. حيث أشاعت سياساتها، بيئة طاردة للأطباء وللمهن الطبية المساعدة.. سياسات “تطفيش” ممنهجة أدت إلى هجرة أعداد كبيرة من الاستشاريين والكفاءات إلى القطاع الخاص وخارج الوطن.

وافتعلت الوزارة عوائق كبيرة في عناوين الدورات التعليمية، وملء الشواغر الضرورية، وفي ملف الإقامات بغرض التخصص، وابتدعت شروطًا مذلة بحق الأطباء الجدد، لتدفع بمعظمهم إلى مستشفيات القطاع الخاص، أو إلى الهجرة التعليمية لأبنائنا إلى الخارج، بعد إغلاق جميع الأبواب أمامهم داخل الوطن!

هذه السياسات ألقت بثقلها على أكتاف الأطباء الشباب من الخريجين الجدد دون أن تحقق لهم النقابة إنجازًاذا قيمة.. حيث ازدادت بأوساطهم نسب البطالة، والبطالة المقنّعة، وفُرضت عليهم أنظمة إقامة وتوظيف مختلفة تتراوح بين الرواتب المتدنية، وبين نظام السخرة غير مدفوع الأجر “unpaid”، ثم تحميل الأهالي نفقات الإقامة لأبنائهم، رغم الأعمال الكاملة التي يقوم بها الطبيب المقيم.. وكل ذلك تحت شعار(اللي ما معو، ما بيلزمو!)

الحكومة التي لم تكن مرتاحة، حتى للمستوى النقابي المعارض المتواضع لسياساتها، توعدت النقابة وهيأت لهجومها المعاكس عبر العمل على ثلاثة مستويات:

أولًا – العمل على إبعاد العناصر والقوى التي تحمل رؤيةً ومشروعًا وطنيًا يربط المهام النقابية المطلبية، بالمهام الوطنية العامة، وخاصة في عنوان الدفاع عن القطاع الصحي العام وضرورة الحفاظ عليه مع العمل على تطويره وتنميته وضرورة تحقيق العدالة في خدماته المقدمة للمواطن.

هجوم الحكومة المعاكس في هذا المستوى، جاء تحت شعار “مهننة النقابات وعدم تسييس العمل النقابي”، وهذا ما بدا واضحًا في الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين.

ثانيًا- العمل على إضعاف وحدة النقابة وتماسكها وتضامن أعضائها، واختارت الدخول على هذا الحقل من خلال دفع البعض، لإضعاف صندوق تقاعد الأطباء، نظرًا لما يمثله الصندوق بالمعنى العام من روح تكافلية تضامنية في جسم النقابة. ومهما كان تواضع ما يقدمه للأعضاء المتقاعدين، إلا أنه يبقى عامل جمع ووحدة لعضوية نقابية تتوسع باستمرار أفقيًا وعاموديًا، وتتنوع مصالحها. كما يشكل مظلة نقابية بما يتفرع عنه من صناديق اجتماعية لخدمة الهيئة العامة.. على وجه الخصوص: صندوق التأمين الصحي الاختياري، وصندوق التكافل، والصندوق التعاوني…

أزمة صندوق التقاعد، وتراجع مقدراته، جعلت منه الخاصرة الرخوة، وبوابة النفاذ إلى النقابة، ليس بغرض إنقاذه، ولكن للإجهاز عليه، وتحويله إلى أداة للصراع والإستقطاب النقابي.

منذ أربع سنوات، وصلت إلى المجلس وبثقل واضح، القوى النقابية التي رفعت شعارات مهننة النقابة، ومع أن الكتلة الأساسية من الواصلين كانوا مسيسين ومحزبين بقوة، إلا أنهم قد أخفوا انتماءاتهم خلف شعارات المهننة، أقاموها بشكل رئيسي على أرضية خلق تناقض بين الفئات العمرية في النقابة، خاصة في عنواني صندوق التقاعد، وعدم الإلزامية.

مرض الزبائنية الانتخابية والتسلق على المقعد بأي ثمن، تسلل أيضًا إلى صفوف بعض القوى المنظمة في النقابة، التي تعرضت بدورها إلى حالة من الانقسام والتشظي.

ثالثا- مع يد خفية من خارج النقابة، عمدت بعض الأطراف إلى تسريع إفلاس الصندوق، عبر التراخي في تحصيل موارده من خارج جيوب الأطباء، مع تبديد سيولة الصندوق في استثمارات خاسرة، وفرض تعديلات على القانون تقلل من جدوى الاشتراك في الصندوق للأطباء الجدد، مستغلة بذلك الظروف المادية الحرجة للأطباء الشباب.

ولكنها سرعان ما انسحبت من الساحة أمام أول مواجهة مستحقة ومفصلية مع الوزارة.. وبدا بأن هذه الأطراف لم تأتِ إلى النقابة من أجل قضايا نقابية مطلبية، وأن شعارات المهننة البراقة، رفعت للتهيئة لشطب واجبات المجلس، قبل أن تشطب وجوده، وتبديد دور النقابة.

ومع أول معركة مستحقة بعنوان نقابي مطلبي واضح يتعلق بحقوق الأطباء في وزارة الصحة، ورواتبهم وحوافزهم المستحقة، ودون حتى أن يحاول المجلس تعبئة الهيئة العامة أو استشارتها، انسحبت بالاستقالة كتلتا، طموح 8 أعضاء مجلس، ونمو 3 أعضاء مجلس، في فترة حرجة من عمر المجلس، وفي ظل الحالة الوطنية الاستثنائية التي يخيم عليها وباء كورونا، وقانون الدفاع، وتغول الحكومة على المجتمع!

تفاجأ الجسم الطبي بهذه الاستقالات المتسرعة لأغلبية أعضاء المجلس، وناشد المستقيلين بالعودة عن استقالاتهم، وتخوف، من شأنها أن تقود هذه الاستقالات، النقابة إلى المجهول، سيما وأنها جاءت بعد عام من التوتر وانعدام الإنجاز داخل المجلس، وتعطيل النقيب للاجتماعات على مدى عدة أشهر.

وأتى النقيب ليزيد المشهد إرباكًا، وبدلًا من تحديد موعد للانتخابات التعويضية حسب نص قانون النقابة، خالف القانون، وأعلن عن تشكيله لجنة من “قائمته الانتخابية” لتدير النقابة كبديل كامل عن المجلس، دون الحصول على شرعية لإجراءاته من الهيئة العامة، بل حاول أن يعطي لهذه اللجنة مظلة ملتبسة من وزير الصحة.

إجراءات النقيب، أججت الخلافات وحالة الاستقطاب، وبدا بأن المشهد يقاد من قبل مايسترو، يحرك الخيوط، ويقود القطار إلى سكة المادة 75 من قانون النقابة.

بداية، بُررت الاستقالات على أنها جاءت احتجاجًا على “اقتطاعات الحكومة من رواتب أطباء الصحة”، ولولا تسرعها ونزقها، كان من الممكن لهذا العنوان المطلبي، أن يوحد الهيئة العامة حول هدف وجيه.. ولكن بعيد الاستقالة هناك من حول المشهد، من واقع أن وزارة الصحة هي غريم “للنقابة”، إلى الحديث بأن النقيب هو غريم أعضاء المجلس، وصولًا إلى إعلان بعض المستقيلين بأن هناك أسباب داخلية أخرى للاستقالة، لم يتم الإفصاح عنها!

من المتسبب بهذه الأحجية والفوضى، وخلط الأوراق، ولماذا، ولمصلحة من يتم هذا؟

كيف تحولت وزارة الصحة من خصم تسبب بإقالة كل المجلس، إلى حكم وطوق النجاة المطلوب لحل الإشكال “المفتعل” داخل المجلس، وعلى ظهر الجميع؟!

الحكومة مستفيدة من مناخات قانون الدفاع، اتخذت قرارًا تعسفيًا، باستخدام المادة 75 العرفية، فقامت بحل المجلس كاملًا، وشكلت لجنة مؤقتة تدير النقابة بقيادة وزير الصحة.

حالة أدخلت النقابة في مشهد غامض ومفتوح على جملة من الاحتمالات الخطيرة، تكاد يكون مرهونة بيد الحكومة، مع التخوف من أن تأتي اللجنة على ما تبقى من مقدرات النقابة.

ما العمل وما الخيارات، أمام التحدي المستجد؟ كيف يمكن المواءمة بين الموقف النقابي المنتقد لتعسف الحكومة، وبين محاولة إنقاذ النقابة والتعامل مع مفرزات القانون بحد أدنى من الخسائر؟

كان الخيار الأول عند البعض الدخول في حالة رفض للجنة الحكومية كما ظهر في ردود الفعل الأولية، أو إجراء تقاضي مع الحكومة، وهو ما أخذ به النقيب المقال، وتبدو هذه مهمة صعبة وتأخذ وقتًا طويلًا مع غياب المجلس كطرف تقاضي، سواء كان ذلك بالاستقالة أو بالحل.

الخيار الثاني وكانت له الغلبة، تبلور عبر رأي عام في الهيئة العامة، لا يرغب بافتعالها انقسامات جديدة في جسم النقابة، مع التوجه للتعاطي العملي مع اللجنة المؤقتة كأمر واقع، وأن يتم التعاون ” اليقظ المسؤول”  مع أعضاء هذه اللجنة -وهم زملاء لنا- في محاولة لتصريف شؤون الأطباء والنقابة المعلقة، وحل بعض الملفات المُلحة، مع تبلور رأي غالب بضرورة العمل على توحيد جسم النقابة حول هدف محدد، وهو إجراء الانتخابات للمجلس بأسرع فترة ممكنة، لإعادة النقابة إلى أبنائها، مع التأكيد بأن القرارات المصيرية والنوعية في الشأن النقابي يجب أن تعود للهيئة العامة للتقرير بشأنها.

 وأن ندفع لكي تتعاون اللجنة المؤقتة، وتتشارك، في مهامها، مع الهيئات النقابية المعنية المنتخبة. مع ضرورة تفعيل لجان الصناديق واللجان الفرعية الشرعية، وإشاعة روح التعاون في أرجاء النقابة حتى تحافظ على العمل المؤسسي، وروح النقابة ووحدتها ووجهها الديمقراطي، والدفاع عن مكتسباتها.

بواسطة
د. موسى العزب
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى