هل نعتبر الدقامسة بطلاً؟ ؟
أحمد أبو خليل
عصر هذا اليوم كنت واحدا من زوار أحمد الدقامسة في قريته الجميلة “ابدر” وتشرفت بتقبيل رأسه.
وبهذه المنسبة لدي بعض الكلام:
فقد تجدد النقاش الذي لم يتوقف منذ عشرين عاما حول ما قام به أحمد.
نعم أيها الإخوة، احمد الدقامسة ليس مناضلا ولا مقاوماً ولم يكن طيلة سنوات سجنه العشرين معتقلاً سياسياً، بالمعنى الدارج لهذه الكلمات والألقاب. وهو -وفق معلوماتي على الأقل- لم يقدم نفسه كذلك لا قبل العملية ولا بعدها.
ولكي لا يظن قارئ هذه الكلمات أنها مجرد خيال (مع ان الخيال مطلوب هنا)، أرجو أن تسمحوا لي على الهامش بالقول إنني كنت قبل سنتين بالضبط، أجري بحثا في منطقة بني كنانة (حول قضايا التنمية والفقر) وأقمت لأسبوع في قرية الدقامسة واستمعت، فيما استمعت، لشهادات عديدة حول أحمد، جميعها أكدت أنه كان شاباً محترماً “إبن بلد” لا يختلف عن الكثيرين غيره، ولم يكون معروفاً بموقف سياسي.. لكنه ببساطة كان يكره عدوّه.
قرية ابدر، أيها الإخوة، تقع على بعد كيلومترات معدودة من هذا العدو. وأهل ابدر وغيرها من قرى بني كنانة وباقي قرى خط المواجهة مع العدو، لم يحتاجوا لمن يقرئهم أو يعلمهم ما معنى العدو. إنه أمامهم على الدوام.
من الأخطاء الشائعة، أن الروح القومية العالية في مناطق بني كنانة سببها وجود أحزاب قومية ووطنية! إن الصحيح هو أن الأحزاب القومية والوطنية موجودة بسبب وجود الروح القومية والوطنية عند السكان، وليس العكس.
عصر هذا اليوم، وصلت مبكراً إلى قرية ابدر، ولما تعذر الدخول في البداية، اتجهت شمالاً نحو “ام قيس”، وزرت سفحاً لأحد الجبال وهو مهجور اليوم، لكنه غني بالإشارات إلى العلاقة مع العدو، لا تزال الخنادق والمغارات والبيوت المحفورة في الصخر التي كان يتحصن بها الجنود الأردنيون في فترة حرب الاستنزاف وما تلاها ظاهرة وأثر ضربات الفؤوس والأزاميل صامدا… من المؤكد أن آباء جيل احمد كانوا هناك. وقد حدثني بعض أهالي ابدر عن ذكريات قصف العدو وملاحقته للجنود والمقاومين في سفوح واودية القرية.
لنعد إلى قصة أحمد..
قبل عشرين سنة، كنا في حالة كآبة عامة على المستويين الوطني والقومي، بعد اتفاقيتي أوسلو ثم وداي عربة، وانسداد الآفاق.
كان السياسيون يقولون “لا” مخنوقة وغير واثقة، ولم تكن تقنع احداً. كان شعبنا بحاجة لكلمة “لا” مختلفة. تلك هي التي قالها احمد.
من فضلكم، أعرف أن “ضحايا” عمل أحمد هن فتيات مجردات من السلاح. وأعرف أنه ليس من “المنطقي” أن تستهدف فتيات في وضعية غير قتالية. لكن الغضب الشعبي العام الذي عبر عنه أحمد ليس من النوع الذي يخضع للمنطق، خاصة في تلك السنوات التي تلت العدوان على العراق ثم “جلْب” العرب إلى طاولة المفاوضات.
نحن هنا لا نناقش قصة أحمد باعتبارنا وزراء خارجية! كما يظهر عند بعض المناقشين. نحن نناقش الأمر المستوى الشعبي، حيث تنطبق مواصفات الرمز والبطولة الشعبية على أحمد الدقامسة. يعرف المهتمون أن أبطال ورموز شعوب كثيرة هم في التعريفات الرسمية قطاع طرق أحياناً أو متمردين ومجرمين، لكن الشعوب تعرف جوهر عملهم، سواء كان اجتماعيا يتعلق بالمصالح والحياة والعدالة، او ما يتعلق بالقضايا الوطنية. لقد عاين شعبنا ما قام به احمد بغاية الحساسية، رغم ما ساد حينها من ترقب وخوف.
منذ اللحظة الأولى، أجمعت عشيرة أحمد (أهل قريته) على عدم التخلي عنه، ومن دون الحاجة إلى مسميات ومصطلحات، إنهم في قرية ابدر عادة ما يقولون: “يوم شغلة احمد” أو “يوم قية احمد”، لكن أحدا لم يشذ مستنكراً، علنا على الأقل. وهم في هذا يستحقون التحية.
إن الشخص الذي جلس مجاورا لأحمد أمس، وقبل ذلك رأيته متحدثا في جاهة خطبة ابنة احمد قبل حوالي عام، هو لواء متقاعد (باشا). لقد كان على رأس خدمته عندما قام احمد بعمليته، واستمر في الخدمة، وأسهم حينها في إدارة الأزمة، وهو يشعر بالانسجام مع نفسه كما يبدو، من دون الحاجة إلى ان يتحول إلى مُعارض. إنه ابن الجيش، لكنه اليوم، بعد التقاعد من المسؤولية الرسمية، لا يجد حرجاً في الوقوف إلى جانب ابن عمه.. تلك بالمناسبة إحدى جماليات بلدنا الأردن. وهناك العديد من القصص ذات الدلالة في هذا السياق.
هناك من يشغل نفسه بالتركيز على وقائع الحادثة، لكن أيها الإخوة، ليس مطلوبا منا أن ننصاع لمتطلبات عدو تقوم كل جوانب كيانه على القتل والإجرام.
لأحمد كل التحية، ونتمنى أن يواصل حياته سعيدا بين أسرته وأهله المخلصين، وأن يترك لكي يختار مصيره بحرية، تماماً كما كان قبل ان نعرفه.