هل أصبحت القائمتان الخضراء والبيضاء خارج أُطر النقابات المهنية؟!
بعد سيطرة لدورتين متتاليتين، تتعرض «القائمة الخضراء» في نقابة الأطباء لخسارة قاسية في الانتخابات التي جرت أواسط نيسان الماضي، حيث لم يفلح مرشحو القائمة بالفوز بأي مقعد في المجلس، في معركة تنافس فيها للانتخابات خمس قوائم، علما بأن «الخضراء» لم تتقدم باسمها الصريح في هذه الدورة، وإنما حملت مرشحيها تحت مسمى «التيار»، بعد أن حاولت توسيع صفوف تحالفاتها دون نجاحات كبيرة، فيما أبقت على رؤيتها وبرنامجها الانتخابي وطبيعة هويتها ومشروعها النقابي.
من المفيد التنويه هنا بأن «التجمع النقابي المهني»، والذي يمثل إطارا عريضا يضم في صفوفه الاتجاهات القومية واليسارية والديموقراطية ومستقلين، والذي يشكل القائمة الخضراء في النقابة، يمتلك تراثا متراكما، وتجربة حسية متقدمة، ألهمت ولوقت طويل، العديد من النقابات المهنية، وما يزال قادرا على تجاوز كبوته هذه والنهوض لتقييم تجربته وتجديد بنيته والنهوض من جديد لتحمل مسؤولياته تجاه النقابة والعمل الوطني.
ومن الملاحظ أيضاً، بأن «القائمة البيضاء» التي كانت تمثل التيار الديني في نقابة الاطباء، وشكلت لعقود المنافس الرئيسي للقائمة الخضراء في كل الانتخابات النقابية السابقة، قد انكفأت بالكامل كهوية ومدلولات تاريخية وسياسية، والتحقت بإحدى المجموعات المستقلة في تحالف ضم تكتل للمتقاعدين العسكريين خلال الانتخابات السابقة، بعد أن قطعت عهوداً بمهننة العمل النقابي، وأغدقت بتقديم وعود مطلبية مصلحية لبعض القطاعات الطبية المتضررة، ونجحت قبل ثلاث سنوات، في حمل الدكتور على العبوس نقيبا لمجلس تقاسموه تحت مسمى قائمة «قمة»!
في الانتخابات الاخيرة، خاضت «البيضاء» معركتها تحت مسمى «طموح» بعد أن انفصلت عن قمة، كما فعل العبوس، وقدمت نفسها كـ»مستقلة»، وفازت بعضوية ثمانية أعضاء من المجلس.
عرض تجربة نقابة الاطباء هنا، يبرره حداثة التجربة الانتخابية في هذه النقابة، ومدى ثقل انعكاس سياسات الحكومة الاجتماعية على القطاع الصحي الذي يشكل مع التعليم، القطاعات الخدمية الاقرب إلى ملامسة حياة المواطن، والأكثر وضوحا في قراءة التوجهات الاجتماعية الاقتصادية للدولة، والتغيرات العميقة في واجباتها تجاه المجتمع.
لقد جرت انتخابات نقابة الاطباء الاخيرة في ظل حالة مأزومة للأوضاع الصحية، تتصف باستمرار محاولات الحكومة خصخصة القطاع الصحي العام، ومنح هامش أوسع للقطاع الخاص تحت شعارات التشاركية ودعم السياحة العلاجية وتخفيف العبء، وقد ظهرت نتائج هذه السياسات في حجم الاختلالات الجوهرية التي أصابت المنظومة الصحية بمجملها سيما وأن التوجه قد بات واضحا في مواصلة تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي كما أعلن عنها «برنامج النهضة» لحكومة الرزاز، وتكريس تراجع الدولة عن مسؤولياتها في الرعاية الصحية، وظهر ذلك واضحاً من خلال تخصيص 50 مليون دينار في موازنة الصحة للعام 2019، لشراء خدمات «لتخفيف الضغط على خدمات الوزارة» دون بذل جهود حقيقية لتعويض النقص الحاصل في معظم التخصصات، في حين تجري محاولات حثيثة للتخلص من التأمين الصحي وإحالته إلى شركات التأمين في القطاع الخاص، وما سبق هذا من وضع شروط مغالية جدا أمام قبول مقيمين جدد في التخصصات المتاحة في مستشفيات الوزارة، في محاولة لتخلي الصحة عن دورها في تكوين أخصائيين جدد لمشافي الوزارة.
لقد أدت هذه السياسات إلى التخلف في مواكبة تطوير المواصفات والمعايير الضرورية للارتقاء بنوعية وسوية الخدمات المقدمة للمواطن وبالتالي إلى تدهور عمل الوزارة بشكل عام.
وما أفرزته من نزف متواصل للكادر الطبي والتمريضي سواء إلى القطاع الخاص أو إلى خارج البلاد.. سياسة ممنهجة أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة بين الاطباء، ونقص حاد في عديد من الكفاءات في معظم التخصصات، بينما امتدت الازمة لتشمل مؤسسات القطاع الخاص، الذي أصابته أيضاً عدوى الركود، وتناقص بشكل ملموس نسبة اشغال المستشفيات والمراكز الطبية، مما حمل بعضها إلى إقفال أجنحة وأجزاء من أقسام المرضى، واضطر البعض الآخر إلى بيع أصوله إلى مستثمرين أجانب!
في ظل الازمة العميقة التي تعصف بالقطاع الصحي والاطباء، تعرضت النقابة مثل غيرها من النقابات ومؤسسات المجتمع إلى حالة من التجريف السياسي المتواصل، حيث تجري عملية تقييد للحريات والتعددية وردع للمشاركة الشعبية، يرافق ذلك تدخل الدولة في كافة الجوانب الحياتية والفكرية والنظم المجتمعية، الأمر الذي يضعف من قدرة هذه القوى على صياغة مواقفها الواعية، ومقدرتها على استنباط أساليب السياسة المعارضة في مواجهة حالة السيطرة على حياة الناس والافكار والمشاعر، وبدا واضحاً بأن هدف الحكومة من كل ذلك، هو التهيئة لتنفيذ خياراتها الاجتماعية، والتزاماتها السياسية والاقتصادية التبعية، وتحضير التربة للاستحقاقات القادمة في الاقليم. فباتت مصرة على احتكار الموقف الوطني والاستفراد بالكامل بالقرار السياسي على حساب القوى والفعاليات النشيطة المنظمة.
ما تسعى إليه الحكومة واجهزتها في النقابات المهنية، هو تهميش السياسة بعد التشكيك بمصداقيتها، وتغليب النزعة الفردية وتبديد الفعل الجمعي الواعي في رسم توجهات المجتمع، وصولا لعزل النشاط النقابي عن الشأن الوطني.
وبتنا نلحظ سيادة الخطاب النقابي السطحي الاجوف، وتحول مجتمع المهنيين بالتدرج إلى جزر متنافرة واستقطابات عصبوية مصلحية.
إن تدخل أذرع الدولة العميقة في الشأن النقابي ليس جديداً، فقد استهدف النقابات العمالية أولاً، فأحالها إلى هياكل فوقية مفرغة من أي هوية أو دور مطلبي، قبل الحاقها بالسياسات الحكومية، وعزلها عن الحركة العمالية والمجتمع.
بدأ التدخل الممنهج في الشأن النقابي المهني منذ اكثر من ثلاثة عقود، ثم تصاعد من خلال التشكيك بقانونية النقابات واعتبار اللجان الوطنية المشتركة، بمثابة هيئات خارجة عن القانون، وحاولت الحكومة مرارا ضرب مجلس النقباء، كما وجهت للنقابات خطاب تهديدي تصعيدي، وشنت حملات إعلامية مغرضة، تشهر بالالوان النقابية ومرجعياتها السياسية والفكرية، وتشكك بدورها الوطني بذريعة مفتعلة، تدعي ميل النقابات لمملرسة أنشطة سياسية على حساب الفعل النقابي.
إلا أن تعاظم دور النقابات في الشأن العام، والارتقاء بجهودها النقابية المطلبية والمهنية، وصولاً إلى تشكيل أدوات فعل مؤسسية مثل مجلس النقباء أو لجنة الحريات، ولجنة مجابهة التطبيع، ووضع جزء من امكانيات النقابات لدعم مأسسة هذه الهيئات، قد دفع الحكومات كطرف مشغل ومؤثر لاعادة رسم سياساتهم النقابية باتجاه العمل داخل هياكل النقابات نفسها، والتحول إلى طرف لاعب مباشر في العملية الانتخابية، وتوجيه الرأي العام دعما لهذا النقيب أو ذاك، أو لهذه القائمة أو تلك، بما يؤمن مصالحها، ويضعف من تأثير القوائم ذات المرجعيات والبرنامج، وصول لتهميشها وإقصائها.
في الانتخابات الاخيرة لنقابة الاطباء، كان التدخل سافرا ومزدوجا، يلتقي عند تعظيم فرص النقيب الحالي على الفوز، سواء عبر الاتصالات المباشرة المبكرة من قبل أذرع الحكومة، في محالة لاشاعة حالة من الشكوك وخلط الاوراق في أجواء القائمة الخضراء على وجه الخصوص. ثم من خلال التوجيه وعلى نطاق واسع قبيل الانتخابات، لتحشيد الناخبين للتصويت لصالح النقيب الذي أعيد انتخابه وبفارق بسيط في الاصوات، عن منافسه في قائمة الاتجاه الديني.
كما لعب وزير الصحة السابق دورا ارتكازياً في دعم موقف النقيب من خلال إعلانه الموافقة على بعض مطالبات أطباء وزارة الصحة، وخاصة في ملف الحوافز والذي تبين لاحقا بأن المسألة في حقيقتها كانت بيعا للوهم ومناورة على جزء من حقوق الاطباء المستحقة، تبعها حصول توافقات بين النقيب والوزير في الملف الاكثر الحاحية لأطباء وزارة الصحة والمتعلق بشروط عقود الاقامة الظالمة التي تحاول الوزارة فرضها على الاطباء، مقابل حصول الوزير على تعهد غير مسبوق في تاريخ العمل النقابي، التزم من خلاله نقباء الصحة الاربعة بضمان التزام نقاباتهم مجتمعة «بعدم إعطاء أي غطاء نقابي لاي نشاط أو تحرك مطلبي لا يلتزم ببنود الاتفاق الموقع»، وكشف ذلك عن الدرجة التي بلغتها التفاهمات مع الوزير، وصولا إلى حد تنازل النقابات عن واجباتها لصالح الحكومة التي بدت مرتاحة لتوظيف هذه النقابات في التصدي للاحتجاجات والمطالبات المهنية المطلبية، لدرجة قيام الوزير، وبوقت قياسي، بتأجيل انتخابات نقابة أطباء الاسنان بطلب من النقيب وجزء من المجلس!
قد تؤدي حالة الخلط والتدخل الخارجي إلى إنجاح هذا المرشح أو ذاك، ولكنها تكشف أيضا عن استهدافات الحكومة السياسية للعمل النقابي، وما يسببه ذلك من إحداث انقسامات وشروخ في جسم النقابة، وتعميق أزمة الثقة البينية، وبين الهيئة العامة والمجلس، وتعاظم دور التدخل الخارجي في تحديد مصير النقابة وضرب وحدتها وتطورها الديموقراطي.
من خلال ذلك، تعرضت القائمة الخضراء بما تمثله من لون انتخابي ورؤية نقابية، إلى محاولة تصفيتها، وشطبها من الواقع النقابي، حيث عانت مؤخرا من محاولات انشقاقية متعددة ومتوالية، فيما تعمق الشرخ بين الشباب والرواد، وحصلت انقلابات تصويتية مباغته لتجمعات انتخابية توافقت مع «الخضراء» في رسم البرنامج وتشكيل القائمة، قبل أن تعلن إنفكاكها دون سبب مقنع، حصل هذا رغم كل محاولاتها الجادة والصادقة في لم الشمل وتجاوز الاختلافات الثانوية ومحاولات توسيع قاعدة التحالف الانتخابي، تحت شعار إنقاذ النقابة!!
حالة مخاض حرجة تعيشها النقابات المهنية، والتي تعد من بين اكثر مؤسسات المجتمع المدني تميزا في حفاظها على حد معقول من البناء الديموقراطي، ومساهمتها في تشكيل نمط الحياة الاقتصادي والمهني والثقافي، مما يتطلب يقظة القوى الديمقراطية صاحبة البرنامج الوطني التقدمي للتغير، والتداعي للاسراع في تشكيل تحالفات عريضة، والالتفاف حول برنامج واضح يصون مكتسبات النقابات المهنية ومصالح أعضائها، ويحافظ على خطها المهني الوطني الاستقلالي الديموقراطي، على طريق خلق مجتمع نقابي موحد يقوم على قيم ومفاهيم العمل المشترك الواعي.