هل أصبحت “الديمقراطية البرجوازية” و”الانتخابات البرجوازية” طريقنا لتحقيق الاشتراكية .. أمريكا اللاتينية نموذجاً.
مثلت فرضية وصول أحزاب الطبقة العاملة وقوى اليسار إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع من خلال الانتخابات “الديمقراطية البرجوازية”، أحد القضايا النظرية الخلافية، وما زالت. لكن التجربة العملية والخبرة التاريخية المتراكمة تقول بأن الإجابة على نجاعة هذه الوسيلة مرهونة بخصوصية الظروف الاجتماعية – الاقتصادية – التاريخية لكل حالة، ولا يجوز التعميم بالمطلق.
إن وصول القوى التي تحمل التوجه الاشتراكي إلى السلطة عبر هذه الوسيلة، لا يلغي التحدي الأكبر في مدى قدرتها، بعد ذلك، على الشروع في بناء الاشتراكية. فتجربة “جاكوب آربنز” في غواتيمالا عام 1950 الذي وصل عبر صناديق الاقتراع، وطبق مشروع الإصلاح الزراعي الذي تصادم مع مصالح شركة “يونايتد فروت كومباني” الأمريكية وانتهى بانقلاب عسكري دبرته “السي أي أيه” بدعم من الشركة المذكورة عام 1954، وتجربة “سلفادور الليندي” في تشيلي، بوصول تحالف “الوحدة الشعبية” للسلطة عبر صناديق الاقتراع، الذي شرع في إصلاحات عميقة، شملت قانون الإصلاح الزراعي وتأميم قطاعات إستراتيجية. هذه السياسات تصادمت مع مصالح البرجوازية ورأس المال في الداخل، وسرعان ما انتهت بانقلاب عسكري بقيادة بينوشيت.
لم تقتصر الانتكاسة التي قادها اليمين الفاشي المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية على غواتيمالا وتشيلي، بل امتدت لتطال العديد من دول أمريكا اللاتينية وكلها بإدارة الـ “سي أي أيه”.
الدرس الأبرز لتجربتي تشيلي وغواتيمالا، تمثل في أن وصول اليسار عبر صناديق الاقتراع يجب أن يتلازم وامساك السلطة الشعبية بالمؤسسة العسكرية للحيلولة دون تكرار السيناريو الانقلابي.
بالمقابل وفي العديد من دول أمريكا اللاتينية التي مارست فيها قوى اليسار، العنف الثوري والكفاح المسلح، ولم تتوج بالوصول إلى السلطة، كتجربة “التوباماروس” في الأروغواي، و”كولينا” في البرازيل، و”الفارك” في كولومبيا، و”الدرب المضيء” و”توباك أمارو” في البيرو، وجبهة “فارابوندو مارتي” في السلفادور، استطاع بعضها لاحقاً من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، كما حدث في الأوروغواي، فالرئيس السابق “موهيكا” كأن من أبرز قادة التوباماروس، والرئيس الحالي للسلفادور “سانشيس سيرين” كان الرجل الثاني في جبهة فارابوندو مارتي، ورئيسة البرازيل الحالية “ديلما روسيف” كانت من قيادات حركة “كولينا” وأسست مع لولا حزب العمال.
أما “الجبهة الساندينية” فبعد وصولها للسلطة من خلال الانتفاضة المسلحة ضد حكم سوموزا عام 1979، وشروعها في بناء السلطة الشعبية، اضطرت لمغادرة السلطة عام 1990 بعد عشر سنوات في الحكم بسبب خسارتها الانتخابات التي تلت سنوات من حرب “الكونترا” الاستنزافية، المدعومة والممولة من قبل ال “سي أي ايه”، لكنها عادت الى السلطة عبر الانتخابات عام 2006.
تشافيز الذي نجح في الانتخابات الرئاسية عام 1998، وشكلت تجربته الحالة الأبرز في أمريكا اللاتينية بعد التجربة الكوبية، وطرح مشروعه لبناء نموذج اشتراكي يتجاوز أخطاء التجارب الاشتراكية السابقة، ويأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات التاريخية والثقافية للشعب الفنزويلي. تبعه إيفو موراليس في بوليفيا الذي جاء من أصول هندية، وتجربة نقابية عمالية، وانخرط في حركة “نحو الاشتراكية” التي أصبح مرشحها للرئاسة وفاز بها عام 2005. أما نموذج رفاييل كورييا في الإكوادور فهو يطرح نموذجا يسارياً، يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية دون التبني الصريح للاشتراكية في خطابه.
بالرغم من أننا نتحدث عن تجارب لشعوب وبلدان في قارة واحدة، خضعت لنفس القوى الاستعمارية، إلا أننا أمام حالات متنوعة وتجارب غنية بخصوصياتها، حكمتها الظروف التاريخية وتفاوت مستوى التطور الاجتماعي الاقتصادي بينها، كما أن مجرى الأحداث تأثر بتطور القوى السياسية ورؤيتها وأدواتها وحضور ودور القيادات التاريخية الكاريزمية فيها.
القضية مثار التساؤل، والتي لم تجب عليها بعد التجربة التاريخية المتحققة تكمن في إمكانية الشروع في بناء الاشتراكية في هذه البلدان أو في بعضها وخاصة التي تحكمها قوى وأحزاب تحمل المشروع الاشتراكي بشكل صريح؟
هذا المشروع تواجهه تحديات كبرى، لا تعني استحالة تحقيقه، بل تتطلب امتلاك الشروط والأدوات والبرامج الضرورية لتحقيقه والتغلب على العقبة الأكبر، والمتمثلة بالإمبريالية الأمريكية وأدواتها الداخلية, التي تعمل بكل ما أوتيت من قوة لإجهاض مشروع التغيير الوطني الديمقراطي الثوري الذي يسعى للتأسيس لبناء الاشتراكية هناك. وهذه القوى المعادية ينطبق عليها تماماً توصيف قوى الثورة المضادة، والتي تتمتع بنفس فرص العودة للسلطة والحكم عبر صناديق الاقتراع، وهذا يعني في حال حدوثه، وهو ليس بالاحتمال البعيد، انقضاضاً على كل المنجزات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتحققة لصالح العمال والفقراء والمرأة والطفولة. نقول هذا ليس من باب التشاؤم بل من باب الواقعية التي ترى الأمور والتحديات والمخاطر كما هي تماماً، وتفرض على القوى الاشتراكية في هذه البلدان مراجعات مستمرة لتطوير برامجها وتجديد أدائها وتوسيع القاعدة الاجتماعية التي تمثل مصالحها وتستند إليها.
يجب أن نلحظ أن تحرك اليمين واليمين المتطرف في الشارع، في كل من فنزويلا والبرازيل والإكوادور، خلال الأشهر الأخيرة هو جزء من معركة واحدة تخوضها الإمبريالية الأمريكية عبر أدواتها، لتقويض وإسقاط الحكومات التقدمية والاشتراكية في هذه البلدان، وتقوم إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية على أن حدوث انتكاسة وسقوط في إحدى هذه البلدان سيكون له مفعول “تأثير الدومينو” حسب أطروحة الرئيس الأمريكي الأسبق “أيزنهور” في الخمسينات. لذلك هي لا تستسلم ولن تستسلم، وتستخدم وستستخدم كل إمكاناتها الاقتصادية والإعلامية والسياسية لتحقيق هذا الهدف.
التحدي كبير وقائم ومستمر، والرهان هو على قدرة القوى التقدمية والاشتراكية في القارة واستفادتها من التجربة والتاريخ، وتفويت الفرصة على العدو الخارجي والداخلي، ويأتي في المقدمة تعزيز الوحدة والتماسك الداخلي، وتطوير الأداء ومحاربة الفساد والارتقاء بالمنجزات الاجتماعية المتحققة.