مقالات

هزيمة قاسية للقائمة الخضراء في نقابة الأطباء.. أسباب ودلالات/ بقلم: د. موسى العزب

بعد سيطرة شبه مطلقة لدورتين متتاليتين على مجلس نقابة الأطباء، تعرضت القائمة الخضراء لهزيمة قاسية غير مسبوقة في تاريخ النقابة في الانتخابات التي جرت أواخر شهر نيسان الماضي، حيث خسرت القائمة منصب النقيب وكافة مقاعد مجلس النقابة. وقد تقدمت للانتخابات قائمتان باسم “الخضراء” مما ساهم في إرباك القاعدة الانتخابية وتشتت أصوات الناخبين وعزوف البعض عن الاشتراك في العملية الانتخابية، أو القيام بالتصويت الاحتجاجي لقوائم أخرى.

من المفيد التنويه هنا بأن “التجمع النقابي المهني” الذي يقدم قائمته الخضراء، يمتلك تراثاً متراكماً وتجربة حسية ما زالت حية وملهمة للعديد من النقابات المهنية، كما يمتلك مشروعاً ورؤية وبرنامجاً مهنياً يساعده على تجاوز كبوته هذه، لكي ينطلق لتقييم التجربة والنهوض لتحمل مسؤولياته تجاه النقابة والفعل الوطني.

ما حدث يمثل فعلاً هزيمة للقائمة، وقد لعبت عدة عوامل في الوصول إلى ذلك، وكان لانقسام “الخضراء” أو انشقاقها، والتجاذبات الفصائلية داخلها، الدور الكبير في اهتزاز الأسس التحالفية التي قامت عليها وتبهيت صيغة التجانس التي كانت سائدة في الفترات الماضية، وتأثير ذلك على أدائها الجماعي، وتراجع قدرتها على التطور الداخلي وإنجاح مشروع المأسسة وتباطئها في التجاوب مع مطالب الأطباء وهمومهم والاشتباك مع مشاكلهم وتحدياتهم وإلهاء أطرافها عن التفرغ لاستحقاقات حملتها الانتخابية بشكل مبكر، الأمر الذي حدّ من قدرتها على شرح برنامجها وتوسيع تواصلها مع الهيئة العامة العريضة، وزاد من إرباك القائمة، وصول أعداد كبيرة من خريجي الجامعات المستحدثين إلى عضوية الهيئة العامة ومضمار العمل في جميع المواقع والمراكز الطبية، ولا بد من تسجيل إضافة لهذه العوامل، الأسباب الناتجة عن الاستياء من بعض نواحي أداء المجلس رغم تحقيق عدداً هاماً من الإنجازات ذات الطابع التشريعي والإداري لقطاع كبير من الأعضاء، ولكن شاب هذا الجانب حالة من الضعف الإعلامي التوضيحي، وعدم قدرة المجلس على التواصل المستدام مع الهيئة العامة لشرح وإبراز طبيعة وحجم إنجازاته، وتولُد شعور عند بعض القطاعات الطبية بأن هذه الإنجازات لم تمس مصالحها ومطالبها المعيشية المباشرة، وخاصة مع تزايد أعداد المُعطّلين عن العمل واستمرار تفاعلات مشكلات الأطباء المؤهلين وحملة الشهادات.

لقد عانت نقابة الأطباء مثل غيرها من النقابات المهنية من حالة التجريف السياسي المتواصل التي يتعرض لها المجتمع بمستوييه الشعبي والنخبوي، وانكفاء الأبعاد الإنسانية الشاملة التي تدعو للانفتاح وتؤصل لقيم الحرية والتعددية والتعايش.

وقد فاقم من الموضوع، تدخل الدولة في كافة الجوانب الحياتية والفكرية والنظم المجتمعية، وتكريس حالة من الاستلاب للمواطن وقوى المجتمع المدني، الأمر الذي أضعف من قدرة هذه القوى على صياغة الموقف أو صنع القرار أو حتى الاعتراض البسيط على السياسات الرسمية، في حالة من السيطرة على حياة البشر والأفكار والمشاعر.

في وقت يعاني فيه المجتمع من حالة من المدّ اليميني الأصولي، ترافقت مع حالة من تغييب الفكر والوعي، وتوجيه الرأي العام إلى الانكفاء عن الاهتمام بالقضايا الكبرى كالتصدي للاستبداد وبناء الديمقراطية والتنمية المجتمعية وتحرير الأراضي العربية المحتلة ومحاربة التبعية والهيمنة الأجنبية، إلى أجندات مضللة عبثية تشيطن العمل المنظم وتَفتَعل أعداءاً وهميين وتثير الصراعات المجتمعية والطائفية التقسيمية.

في مرحلة مواجهة الاستحقاق الانتخابي الأخير، طغى على سطح المناخ النقابي صورة غير مسبوقة من التوتير والتدخل الخارجي وازدحام شديد لعدد المرشحين، في ظل تراجع لدور القادة النقابيين من ذوي النظرية التحررية والخبرة والوعي المعرفي، حيث سادت أطروحات التشكيك بدور الأحزاب والفهم السياسي، وإقحام العمل النقابي والانتخابات بالنزعات الفردية والتحالفات الزبائنية الطارئة.

ومن الضرورة هنا الإشارة أيضاً إلى بروز ظاهرة ما يسمى بـــ “المستقلين” التي لم تكن سوى ذريعة منفعية للكثير ممن ينتمي لأطياف متعددة تغير اصطفافاتها لتلائم مصالحها وطموحاتها الشخصية، أفراد وجماعات استمرأت الاختباء خلف هذه المفردة الضبابية، لدرجة انكفاء القائمة البيضاء “الاخوانية” بمدلولاتها التاريخية والسياسية بالكامل، والتحاقها بإحدى المجموعات “المستقلة”، وأفراد وظفوا تاريخ خدمتهم السابقة في الخدمات الطبية، للإفادة من اسم “الجيش” وما يمثل من مكانة واحترام وإجماع وطني، ليمارسوا فيما بعد سياسة التشكيك والإقصاء بحق المنافسين الآخرين، بعد أن قدموا عهوداً بمهننة النقابة وأغدقوا وعوداً افتراضية واهمة للشرائح الأكثر تضرراً بين الأطباء.

رغم حالة الخلط المفتعلة، لم يستطع أحد إخفاء الأبعاد السياسية للمعركة الانتخابية في ظل محاولات الحكومة خصخصة القطاع الصحي العام من خلال منح هامش أوسع لقطاع البزنس والتقاعس عن تطوير القطاع العام وحمايته، الأمر الذي أدى إلى تسريع هجرة الكفاءات الطبية من هذا القطاع إلى القطاع الخاص وخارج البلاد، وحرمان المواطن من مستويات التداوي الضرورية، مما أدى إلى تأخر هذا القطاع عن مواكبة توفير المواصفات والمعايير الضرورية للارتقاء بنوعية خدماته وسويتها في حالة من التراجع الواضح للدولة عن مسؤوليتها في الرعاية الصحية والعلاجية، تماشياً مع إملاءات صندوق النقد الدولي وتكريساً لنظام السوق في القطاع الخاص وتغلغل الاحتكارات ومضاربات السياحة العلاجية. ويلعب التيار الليبرالي القريب من السياسات الحكومية دوراً بات مكشوفاً في النقابة، ويسهم في ضرب العمل المنظم والكتل صاحبة الرؤى والبرامج، ويخلخل التماسك الاجتماعي بين مختلف التيارات والأطياف، وصولاً لضرب المكانة الوطنية للنقابة وتصفيتها. وقد لعبت قائمة “القمة” الفائزة في الانتخابات، والتيارات الليبرالية المنتفعة، أدواراً متبادلة في إرباك وضرب القائمة الخضراء وما تمثله من برنامج ومشروع وحضور، ونقف اليوم أمام نقيب يلوّح بنمط من العلاقات الداخلية الإقصائية ونزعة استعلائية ظاهرة، ومجلس يتشكل من أغلبية تعود لتيار يرث تجارب سابقة كان لها قبل عقدين أثراً مدمراً على صندوق التقاعد ومقدرات النقابة.

حالة حرجة تعيشها النقابات المهنية، تتطلب يقظة القوى الديمقراطية وصاحبة البرامج الوطنية التنموية، مما يوجب التداعي للاسراع في تشكيل تحالف عريض، والالتفاف حول برنامج يصون مكتسبات النقابات المهنية ومصالح أعضائها ويحافظ على خطها المهني الوطني الاستقلالي الديمقراطي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى