هدنة الجنوب على إيقاع الميدان وتغيير موازين القوى
د. عصام الخواجا
نائب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني
هدنة الجنوب لم تكن ممكنة التحقق لولا تغير المشهد السوري والوقائع الجديدة التي فرضها تقدم الجيش العربي السوري في كل جبهات القتال ضد المجموعات الإرهابية وخاصة داعش وجبهة النصرة والمجموعات الأخرى المنضوية تحت نفس الفكر والممارسة ولو بأسماء مختلفة.
وأهم سمات هذا الواقع الجديد إجهاض مخطط تفتيت وتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ دائمة لقوى دولية (الولايات المتحدة) وقوى اقليمية (تركيا والكيان الصهيوني) على حساب نفوذ وسيادة الدولة السورية ومؤسساتها الشرعية؛ الجيش والحكومة ، وأبرزها محاولة الولايات المتحدة وانطلاقاً من معبر التنف والقاعدة العسكرية فيها تثبيت منطقة نفوذ حصري لها كانت تسعى لتوسعتها باتجاهين ؛ الأول نحو الحدود السورية العراقية شرقاً ، والثاني نحو مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية شمالاً ، لتشكل حاجزا جغرافياً متصلاً يفصل سوريا عن العراق ، لقطع خط التواصل الجغرافي بين بيروت – دمشق – بغداد – طهران ، والذي بات مؤمناً بعد هزيمة داعشفي الموصل وتراجع سيطرته المتدحرجفي سوريا ، وتقدم الجيش العربي السوري في عمق البادية جنوباً وشرقاً وشمالاً ، وقرب انهاء وجود داعش في لبنان بعد هزيمة واخراج جبهة النصرة هناك ، وكان قد سبق كل ذلك معركة استعادة وحدة حلب ، التي قوضت اركان المشروع التركي في الشمال السوري ، كما مثل استعادة الجيش السوري كامل سيطرته على الحدود السورية الأردنية التابعة لريف السويداء وتأمين عمقها في البادية شرقاً وشمالاً ، وتعزيز قوته في الجزء الجنوبي الغربي من ريف دمشق ودرعا والقنيطرة ومحيطها المحاذي للجولان السوري والجزء الشرقي من الحدود السورية الأردنية ، وحصر النصرة وداعش والمجموعات المسلحة المدعومة أمريكياً في مناطق أضيق من محافظة درعا المحاذية ما شكل إفشالاً لمخطط صهيوني برسم وتثبيت “منطقة عازلة” في الداخل السوري على حدود الجولان ، وكان سابقاً يسعى للترويج لمنطقة عازلة أوسعكان يعمل على رسمها وتثبيتها تحت مسمى منطقة عازلة “لحماية الدروز”.
هذه التطورات التي عرضنا لها بشكل مكثف(فشل مناطق النفوذ التركية في الشمال والأمريكيفي الجنوب الشرقي ، والصهيوني في الجنوب الغربي)، شكلت المقدمات لما سمي باتفاق الهدنة في الجنوب بين الطرف الأمريكي والروسي بمشاركة أردنية وموافقة الدولة السورية ، وهو تسمية مرادفة لمناطق خفض التصعيد ، يتم بموجبها تهيئة المناخات لخيار المصالحات وتسوية أوضاع من يرغب من المسلحين بالعودة إلى الحياة المدنية ، ويسمح بتركيز الجهد العسكري للجيش العربي السوري وحلفائه لاستئصال ما تبقى من جيوب النصرة وداعش في هذه المنطقة .
ما يلفت الانتباه هو اعتراض الكيان الصهيوني على اتفاقية الهدنة وتوجه وفد أمني صهيوني إلى واشنطن لتعديلها ، يضم رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (موساد) يوسي كوهين، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية هرتسي هليفي، ورئيس الهيئة السياسية- الأمنية في وزارة الدفاع زوهر بلطي ، وما تسرب من معطيات أن الوفد بحثمع المسؤولين في الإدارة الأميركية احتياجات إسرائيل الأمنية ومصالحها التي لم تؤخذ بعين الاعتبار ، كما أنه عكس عدم ارتياح الكيان الصهيوني لهذه التفاهمات التي يرى القادة العسكريين والأمنيين الصهاينة أنها تعزز موقف الجيش العربي السوري وسيطرته على الأرض ، وتؤسس لاستعادة كافة جاهزيته وتطويرها ما يعتبره الكيان الصهيوني تهديداً له ولوجوده ، وتقويضاً لأحد أبرز الأهداف الاستراتيجية الصهيونية في دعمها لهذه المجموعات لوجستياً وعسكرياً ، والتي كانت تسعى لتقويض قدرات الجيش السوري والحيلولة دون استعادة عافيته من خلال ادامة حالة إنشغاله بمواجهة هذه المجموعات واستنزاف امكاناته العسكرية والبشرية ، ما يشكل أوفر السبل للتقليل من خطر تهديد الجيش العربي السوري للكيان الصيوني.
بالنسبة لانعكاس اتفاقية الهدنة في مناطق جنوب سوريا على الأردن ، نستطيع الجزم بأن هذه الإتفاقية هي محط ترحيب على المستوى الشعبي والحزبي الوطني الديمقراطي ، ومستوى المؤسسة العسكرية – الجيش وكذلك السلطة التنفيذية ، حتى لو اختلفت خلفيات وأسباب هذا الإرتياح بالنسبة لكل طرف ، إلا أنه محط إجماع أردني.
فبالنسبة للموقف الشعبي والموقف الحزبي الوطني الديمقراطي ، فهو يأتي متوافقاً مع ثابت الحرص على وحدة الدولة السورية ووحدة أراضيها ، والرغبة باستعادة الاستقرار والسلام للوطن والشعب السوري ، وعل هذه الهدنة تشكل أحد الفصول الأخيرة في نهاية هذه الحرب الكونية والعدوان متعدد الجنسيات على سوريا ومواقفها الداعمة للمقاومة ومحورها ، ويفسح المجال لمئات الآلاف من الأخوة اللاجئين السوريين بالعودة إلى مدنهم وقراهم وبيوتهم ، واستعادة مسيرة حياتهم بعد كل هذه المعاناة والقهر خارج وطنهم.
أما المؤسسة العسكرية متمثلة بالجيش العربي الأردني فلم تجري العادة على أن يكون لها موقف معلن ومستقل عن الموقف الرسمي للسلطة التنفيذية والحكم في الشأن السياسي سواء الداخلي أو الخارجي ، باستثناء وحيد وهو ما مثله تصريح رئيس هيئة الأركان الفريق محمود فريحات ، عندما نفى مؤخرا ، في مقابلة عبر وسيلة إعلام ، أي نية لتدخل عسكري أردني فوق الأراضي السورية ، لكن ومنذ بدايات الأزمة في سوريا ، كانت المعطيات المتداولة في أكثر من مستوى ، من داخل المؤسسة العسكرية ، ومن جسم المتقاعدين العسكريين من مختلف المرتبات ، تقول بأنهم ضد أي تدخل عسكري أردني في الشأن السوري ، وكانوا يرجحون المحافظة على قنوات الإتصال والتنسيق مع الجيش العربي السوري ، لأن أمن ووحدة سوريا واستمرار الدولة السورية هو استمرار لأمن واستقرار الأردن ، وإذا عدنا للماضي القريب ، فلا يعقل أن يتقاتل الجيشين ، أخوة السلاح والعروبة الذي اختلط دمهم من أجل قضايا الأمة وفلسطين في مواجهة العدو الصهيوني ، في مواجهة تخدم فقط إنتصار الإرهاب والتطرف في سوريا ، وإن حدث هذا لا سمح الله ، فالضحية التالية ستكون الأردن شعباً وكياناً ونظام حكم.
أما موقف أو مواقف الحكومات الأردنية المتعاقبة ، وهذا ينطبق على حكومة هاني الملقي الحالية ، فهي الأقل شأنا في ميزان المواقف ، لأنها لا تتمتع بالولاية العامة التي نزعت منها بفعل التعديلات الدستورية ، فلا استقلال لها في قراراها عن الحكم ، مصدر القرار في الشأن السياسي – العسكري الداخلي أو الخارجي ، فهذا القرار يحدده الحكم ورأس الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية ، والحكومة هي قناة وظيفية توكل لها مهمة التعبير عن الموقف فقط.
مصلحة الحكم الحقيقية التي يدركها ويرغب بتطبيقها ، ولم يكن يعبر عنها بصراحة ، كانت تكمن في عدم الغوص في الملف السوري ، أو محاولته عدم الغوص إلا ضمن الحدود الدنيا ، لكن هذه الرغبة كانت تصطدم بشبكة ارتباطاته وانخراطه ضمن ما يسمى “دول الاعتدال” ، وعدم قدرته على مواجهة ورفض الضغوطات الخليجية ، ناهيك عن النفوذ الأمريكي في صياغة سياسات المؤسسات السياسية والاقتصادية في الدولة الأردنية ، وانضباطه لقيود معاهدة وادي عربة ، التي سلبت منذ توقيعها ، استقلالية القرار الأردني في كثير من الملفات السيادية ، فالأردن الرسمي انخرط عملياً بشكل خطير في الملف السوري عبر توفير معسكرات ومراكز تدريب ، على أرضه ، للمجموعات المسلحة باشراف أمريكي – بريطاني وتمويل خليجي ، والتي ذهب جزء كبير منها ليقع في أيدي داعش والنصرة عتاداً ومقاتلين ، كما مشاركته في غرفة عمليات موكلتوجيه هذه المجموعات المسلحة في مواجهة الجيش العربي السوري ، وهذا يمثل خليطاً يجمع بين حالة الارتباك والتردد والتورط ، انقذها لدرجة كبيرة التدخل والدور الروسي ، الذي ساهم بدعم الجيش العربي السوري وغير موازين القوى ، وفرض هزيمة وسقوط المجموعات المسلحة ، أدوات التمويل الخليجي ، وانهيار مجموعات أخرى كانت أدوات لواشنطن وسعت لتشكيلها وتدريبها وتمويلها بشكل رئيسي في جبهة الجنوب السوري ، وتبخرت في أول غزواتها ، ما فرض انحسار وتراجع خيارات التدخل الخارجي من الجنوب ، وفرض المعادلة الجديدة ، معادلة الهدنة ، بعيداً عن الاستجابة لمتطلبات الأمن الصهيوني واشتراطاته ، والتي أعتقد أنها كانت مصدر ارتياح للناس والقطاعات الشعبية والحزبية الوطنية ، كما أنها كانت مصدر تخفيف عبئ وضغوطات أثقلت كاهل الحكم.
لذلك فإن خلاصة القول أن الهدنة في الجنوب السوري مرحب بها ليس فقط من القطاعات الشعبية والحزبية الوطنية والديمقراطية ، بل من الحكم نفسه كذلك لأنها تريحه من الجمع بين المتناقضات ، أما المؤسسة العسكرية فقناعتي وفي ضوء العرض السابق فهي مع تطبيع العلاقات مع الدولة السورية وتعزيز التنسيق مع الجيش العربي السوري لأن في ذلك مصلحة وطنية أردنية خالصة كما هي مصلحة قومية.