نيسانٌ آخر ساخن في انتظار الأردن / موفق محادين
لقد استدعت مناخات تمزيق سوريا الطبيعية (سوريا الحالية وفلسطين ولبنان والأردن) وتقاسمها وفق اتفاقية سايكس-بيكو وسان ريمو، ووعد بلفور، إعادة رسم الخرائط والهويّات في الشرق العربي، ومنها إعادة إنتاج العلاقات (بين الضفّتين) من علاقات أفقية إلى ترتيبات عمودية، كانت الدولة الأردنية من أبرز تداعياتها.
بيد أن تداعيات الانهيار السوفياتي والانفراد الأميركي المؤقّت بالعالم، وتوظيف تل أبيب لذلك في أوسلو ووادي عربة، لم يمنع قوى إقليمية جديدة من التقدّم في مشهد الشرق الأوسط، مثل إيران وتركيا، ما ضاعف من حاجة العدو الصهيوني لتجديد دوره العدواني على مستوى الإقليم، فراح يعيد حساباته وتصوّراته للمحيط الأردني – الفلسطيني كمجالٍ حيوي لا كشريك في دوائر النفوذ الغربية.
وقد تركّزت كل مقارباته وحساباته إزاء الأردن، من زاوية تؤدِّي إلى تصفية القضية الفلسطينية في الأردن وتصفية الأردن نفسه، كدولة وتحويله من حالة البافرستيت العمودية الفاصلة، إلى مناطق واصلة بالتشابُك الأفقي مع ما تبقّى من جغرافيا الضفة الغربية لسلطة أوسلو.
وكما يُلاحَظ من ذلك، فإن الكونفدرالية المُقترحة في سيناريوهات هرتزليا، ليست كونفدرالية بين دولة أردنية وسلطة فلسطينية، بل كونفدرالية لسلطتين منزوعتيّ السيادة، تتكفّل الآليات والأدوات الاقتصادية والمالية والتشريعية بتوفير شروطها، تباعاً، وبالتقاطع مع السياسات الأميركية–الصهيونية التي تقوم على تفكيك الدول وتفتيت المجتمعات وتحويلها إلى “رُقع” جغرافية لأسواق ومناطق حرّة مفتوحة لا تربطها أية روابط داخلية.
إن التدقيق في المشاريع والتصوّرات المتتالية التي طرحها العدو على مدار السنوات الماضية، تنطلق جميعها من اعتبار الأرض الواقعة بين البحر المتوسّط والصحراء (الحدود العراقية الأردنية) أرضاً (إسرائيلية) تعيش عليها أو (تقطن فيها) مجاميع عربية، بإمكانها إدارة نفسها وشؤونها، كسكان على جغرافيا، وليس كمواطنين في وطن، ويشمل ذلك تحويل الجغرافيا الأردنية إلى رقعة للتوطين السكاني لموجات اللاجئين الفلسطينيين المُهجَّرة بالقوة تباعاً.
وليس بلا معنى أن تدعو المادة (8) من معاهدة وادي عربة إلى مساعدة اللاجئين على التوطين وليس على العودة..
فتصوّرات شمعون بيريز حول الشرق الأوسط الجديد والبينلوكس الثلاثي (مركز إسرائيلي ومحيط أردني فلسطيني) وصناديق الاستثمار الإقليمية، ومنها صندوق أقرَّه البرلمان الأردني، واللامركزية السياسية، كما التصوّرات المُتتالية لمؤتمرات هرتزليا منذ عام 2000 وحتى اليوم، تنطلق من استراتيجية التجديد الصهيونية، في مواجهة أية قوى إقليمية مُنافِسة، سواء كانت عدواً، مثل إيران، أو شريكاً في الإستراتيجية العدوانية للأطلسي الجنوبي، مثل تركيا..
وبالتالي لا تحتمل أي شكل آخر من العلاقة مع شركاء وادي عربة وأوسلو، سوى علاقة التبعية والإخضاع الكاملة، وضمان ذلك ليس بالمواثيق وبروتوكولات التعاون، وحسب، بل عبر إعادة تشكيل بُنية الدولة والسلطة برمّتها، ونزع كل مظاهر ووزارات ومؤسسات السيادة المُتعارَف عليها، ومنها السياسة الخارجية والأمن والمالية والتعليم والقضاء… الخ.
صحيح أن سياسات إنهاء دولة الرعاية الاجتماعية ووضع الخطط الخُماسية والثلاثية للتنمية، واستبدال المركزية باللامركزية جرت في مناطق عديدة بإسم تصفية الدولة الشمولية ورواسب البيروقراطيات السوفياتية، إلا أنها في بلدان مثل الأردن، ليست بعيدة عن الاستحقاقات الإقليمية لتصفية القضية الفلسطينية وفق المصالح والرؤية الصهيونية.
وإذا كان من جديد هنا (في العقل الإسرائيلي)، فهو توسيع المجال الحيوي (الأردني–الفلسطيني) جنوباً، أي البحر الأحمر ودوله، بعد التعثّر المتواصِل شمالاً وسقوط (المشروع الإسرائيلي) الذي تم تسويقه تحت عنوان (الأردن الكبير) ليشمل جزءاً من الأنبار العراقية وحوران وحوض اليرموك السوري، وتحويلها كما الأردن نفسه، إلى أقاليم وبرلمانات وحكومات محلية.
وفي الحقيقة، فإن اهتمام العدو بالبحر الأحمر ليس جديداً منذ تكريسه كبُحيرة عربية وفق إتفاقية القسطنطينية، ومحاولاته الدؤوبة لفرض نفسه كطرفٍ في هذا البحر، ابتداء بالسطو على أمّ الرشراش (إيلات) التي انتقلت إلى إمارة شرق الأردن 1925، مروراً بمحاولاته حرمان مصر من حق السيادة على مضائق تيران، وانتهاء بما بات يُعرَف بـ صفقة القرن، التي ربطت لأول مرة بين تصفية القضية الفلسطينية، وبين مدّ الأطماع الصهيونية إلى البحر الأحمر.
إن مشروعاً مثل (نيوم) وتفكيك دول البحر الأحمر إلى موانيء كوزموبوليتية، والحديث عن حيفا كميناء دولي بديل عن موانىء الساحل السوري – اللبناني، هو في صميم صفقة القرن، التي تلازم الإعلان عنها مع التهويد الكامل للقدس ومع تفعيل ما يُعرَف بوادي السلام، الذي يغطي مساحة واسعة من الأردن الأوسط الجنوبي والنقب الفلسطيني المحتل.
وبالعودة إلى التفاصيل الخاصة بهذا الوادي وبضمن ذلك البحر الميت وقناة البحرين، يتّضح لنا معنى تقسيم هذه المنطقة إلى مناطق حرّة بقوانين خاصة، ومنها العقبة والبتراء، وثمة ما يُقال عن مشاريع إقليمية (إسرائيلية – نفطية) للسيلكون والطاقة المُتجدّدة فضلاً عن السياحة وحوض الديسي المائي وغيرها…
إلى ذلك، لا يمكن النظر إلى السياسات الحكومية الأخيرة وما نجم وينجم عنها من التطاول على الحد الأدنى من مُتطلّبات واحتياجات المواطنين، وتحميل الفقراء مسؤولية الفساد والديون الضخمة، وتصفية الطبقة الوسطى، آخر معاقل الدولة الريعيّة السابقة، كنتاجٍ لأوامر البنك الدولي وحسب، فثمة علاقة وثيقة بين هذه السياسات وبين السيناريوهات السياسية المذكورة.
ويُلاحَظ في حركات الاحتجاج الشعبية التي تتّسع يوماً بعد يوم وخاصة في المحافظات والأحياء الشعبية، مخاوف سياسية تتقاطع فيها حسابات الفقراء مع مخاوف أوساط من البيروقراط الأردني أيضاً، وهو ما سبق أن شهده الأردن في انتفاضة نيسان 1989، التي أسقطت حكومة زيد الرفاعي وأوقفت المناخات المُبكِرة لتصفية القضية الفلسطينية عبر ما عُرِف آنذاك بالتقاسُم الوظيفي الذي يسمح للأردن بشكل من العودة السياسية للضفة الغربية.
ولنا أن نقول في ضوء ما سبق، إن نيسان هذا العام قد لا يكون مجرّد ذكرى كما جرت العادة في السنوات السابقة، وقد يتحوّل إلى محطة فاصِلة في تاريخ ومستقبل الأردن.