نداء الوطن تفتح ملف مستشفى البشير: يستقبل أكثر من نصف مليون حالة طوارىء سنوياً
.. أكبر المستشفيات الحكومية يعاني حجم عمل فوق طاقته الاستيعابية وهجرةلكفاءاته الطبية
- الخواجا: أكثر من 500 طبيب اختصاص استقالوا من وزارة في السنوات الثلاث الأخيرة
- قطيطات: الكادر الطبي يقوم بعمله على مستوى ” MAYO CLINIC” لكنه يفتقر للخدمات الفندقية
- فاخوري: الاعتداء على الأطباء له أسباب كثيرة، وطبيب البشير يكشف على 150 مريض يومياً
“مأكول مذموم”هو الوصف الأدق لحال مستشفى البشير، المستشفى الحكومي الأكبر، وثاني أكبر مستشفى في الأردن بعد المدينة الطبية والذي دائماً ما يواجَه بانتقادات واسعة على مستوى الخدمات والأداء. لكنه في الوقت ذاته مقصد السواد الأعظم من موظفي القطاع الحكومي والمواطنين غير المقتدرين وهؤلاء يشكلون النسبة الأكبر من المواطنين في العاصمة عمّان.
نداء الوطن فتحت ملف مستشفى البشير للإطلاع مباشرة على حقيقة ما يحدث فيه، وأسباب هذا الكم من الانتقادات، والوقوف على هذه المشكلة والبحث في الحلول المقترحة.
تقدم طبي مشهود
يعتبر الأردن من الدول العربية المتقدمة في المجال الطبي، حيث يعتبر المقصد العلاجي الأول على مستوى الوطن العربي، وقد بلغ عدد المرضى الذين قدموا للعلاج في الأردن لعام 2013، أل250 ألف مريض من 64 دولة، وبلغ إجمالي الدخل الناتج عن السياحة العلاجية لذلك العام 1.2 مليار دولار أمريكي وذلك وفق حديث للدكتور نائل زيدان نائب رئيس جمعية المستشفيات الخاصة في ندوة أقيمت حول السياحة العلاجية.
البشير ملجأ الغالبية و”الغلابى“
إلا أن هذا التقدم الطبي والخدمات السياحية العلاجية على مستوى المستشفيات الخاصة لم ينعكس –على مستوى الخدمات على الأقل- على القطاع الطبي الحكومي. ففي العاصمة عمان على وجه الخصوص هناك ثلاثة مستشفيات حكومية فقط يفترض أنها تخدم ما يقارب الـ 3 مليون مواطن، ما يشكل ضغطاً كبيراً على هذه المستشفيات الحكومية الثلاث (البشير كأكبر مستشفى حكومي، يليه مستشفى الأمير حمزة ومستشفى الدكتور جميل التوتنجي في سحاب على أطراف العاصمة(.
ويعتبر مستشفى البشير الملجأ الأول من قبل غالبية المواطنين في عمان، إضافة إلى كونه المستشفى التحويلي الرئيسي الذي يستقبل المرضى المحَوّلين من كافة المستشفيات الطرفية، كما أنه الملاذ الأخير لتلقي الرعاية العلاجية من قبل غالبية المواطنين الذين لا يمتلكون خياراً آخر، ولا يملكون القدرة على تغطية نفقات العلاج المرتفعة في القطاع الخاص.
النظافة العامة: أعقاب سجائر، تدخين في الممرات ورسوم على الجدران
المراجع لمستشفى البشير وبمجرد دخوله لعدد من أقسام المستشفى يلحظ وبكل يسر التسيّب في الاهتمام بالمظهر العام ونظافته.
“نداء الوطن” قامت بزيارة خاطفة لأقسام مستشفى البشير، لتلاحظ عدم الالتزام بالقوانين العامة للنظافة والصحة العامة، فهناك العديد من مرافقي المرضى في ممرات المستشفى بسجائرهم التي تفوح رائحتها في المكان والتي نرى أعقابها بزوايا تلك الممرات. إضافة إلى رمي أعقاب ومخلفات المرافقين على الأرض دون وجود من يقوم بإزالتها أو منعهم من القيام بذلك.
والحال لا يختلف كثيراً عند الحديث عن المرافق الصحية، إضافة إلى أنه يمكنك ملاحظة رسوم وكتابات على جدران المستشفى، وتهالك في البُنية التحتية وعدم تحديثها بما يستجيب لنمو الاحتياجات، وممرات مكتظة بالزوار وما يصاحب ذلك من ضجيج وفوضى لا يوفر بأي شكل من الأشكال الراحة النفسية والصحية للمرضى.
مدير عام مستشفى البشير الدكتور أحمد قطيطات وفي حديثه لـ”نداء الوطن”، أشار إلى أن الأعداد الهائلة من المرضى التي تزور المستشفى بشكل يومي، شكّلت ضغطاً هائلاً على كادر العمل، ما يضع عائقاً كبيراً أمام تقديم أفضل الخدمات، خصوصاً في قسم الطوارئ!
وعندما طلبنا منه الحصول على تبرير لتلك الفوضى، أبدى استياءه الشديد من إصرارنا على الاستفسار عن تلك الفوضى، معتبراً أن هنالك أمور إيجابية أهم وأكبر يقدمها مستشفى البشير يجب المناقشة فيها، “فعقب أو عقبين” سجائر على الأرض ليست من اهتمامه للمناقشة فيها، فبرأيه هناك الآف تزور المشفى يصعب السيطرة عليها.
نقص في الكادر الطبي وهجرة الكفاءات
منسق حملة “الخبز والديمقراطية” ونائب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية ورئيس لجنة أطباء وزارة الصحة في نقابة الأطباء سابقاً الدكتور عصام الخواجا، طرح لـ “نداء الوطن” أهم المشاكل التي تواجه مستشفى البشير، والأسباب التي تقف وراءها.
وأشار إلى أن من أهم تلك المشاكل، النقص في الكادر الطبي والفني في العديد من التخصصات الرئيسية والفرعية، ما يتسبب في مظهرين، الأول زيادة غير منطقية في عدد المراجعين للطبيب الاختصاصي أو طبيب الاختصاص الفرعي خلال الساعات المحددة للعيادة، ليرتفع هذا العدد في الكثير من الأحيان إلى 50 – 80 مريض للطبيب الواحد وأحياناً يتجاوز هذا العدد. لذلك أكد دكتور خواجا على أن حالة الضغط المستمر في العمل، هي أحد العوامل في أن تكون بيئة العمل طاردة وغير مشجعة لاستمرار عمل الكادر في وزارة الصحة.
وتتفق الدكتورة مها فاخوري عضو مجلس نقابة الأطباء وأخصائية التخدير في مستشفى البشير مع ما ذهب إليه الدكتور الخواجا، حيث تؤكد وجود نقص بالأخصائيين الشباب وقرب سن التقاعد لعدد كبير من الأخصائيين القدامى، موعزة ذلك إلى موازنة وزارة الصحة التي لا تسمح بشروط أفضل للعمل في مستشفى البشير.
ويرى الدكتور عصام الخواجا أن تلك الحالة تجبر هذا الكادر الطبي على البحث عن حلول فردية من التقاعد المبكر إلى السعي للحصول على عقد عمل في الخارج (بشكل رئيسي في دول الخليج)، أو ببساطة الاستقالة من الوزارة والتوجه لتجربة العمل في القطاع الخاص.
كفاءة الكادر الطبي
وترى الدكتورة مها فاخوري بأن الحوافز المادية غير مجدية ولا ترضي الطبيب، وإن وجدنا طبيباً يقبل بتغييب الحافز المادي أملاً في توفير الحوافز العلمية، فإنه للأسف سيصطدم بغياب هذه الحوافز التي من الممكن أن تسهم بتشجيع الطبيب على البقاء.
ويتفق د. خواجا مع ما ذهبت إليه فاخوري، مشيراً إلى أن مشكلة أخرى تعيق تقديم مستشفى البشير لخدمات متميزة وتتمثل بغياب التدريب المستمر والمنهجي، وغياب سياسة الابتعاث للتخصصات الفرعية بناء على دراسة علمية للاحتياجات، وما يتم محدود جداً، ولا يستند إلى خطة تقوم على حساب الاحتياجات المتزايدة بناء على رصد النمو السكاني وارتفاع كم ونسبة الحالات المرضية ونوعها، والحاجة المستقبلية من الكفاءات في كل اختصاص.
بالإضافة لذلك، غياب سياسة إعداد كادر متخصص جديد ليكون جاهزاً بالمعنى النظري والعملي ليحل محل القديم، فهناك العديد من الأقسام في المستشفى التي تفتقر الى جيل وسط ما بين المقيمين الجدد في برنامج الاختصاص والاختصاصيين حديثي التخرج والحاصلين على البورد من جهة، والاستشاريين أصحاب الخبرة الذين هم على أبوب التقاعد من جهة أخرى. أي أن فراغاً “خطيراً” في توفر اختصاصيين بخبرة واستشاريين سيحدث إن لم يتم تدارك الموضوع الآن باتخاذ سياسات وخطوات، طارئة واستثنائية، تشجع على بقاء الإختصاصيين الجدد على ملاك الوزارة.
عدم رضى المراجعين والاعتداء على الأطباء
هذا الضغط في العمل على الأطباء والناتج عن نقص الكادر الطبي والحجم الكبير من المراجعين، أدى إلى ارتفاع معدل الاعتداءات على الأطباء-بحسب ما ذكرت الدكتورة مها فاخوري عضو مجلس نقابة الأطباء، التي أكدت استغرابها من مساءلة طبيب يقوم بالكشف على 150 حالة يومياً –كما يحدث مع أطباء البشير-.
ويعتبر الاعتداء على الأطباء من قبل المراجعين من أهم المشاكل التي يعاني منها أطباء مستشفى البشير، بل إننا شهدنا قبل أربعة أشهر تقريباً مقتل الطبيب محمد أبو ريشة على يد أحد المراجعين.
ويرى الدكتور قطيطات مدير المستشفى أن عدم رضا المواطنين محصور في غياب الخدمات الفندقية والتي يفتقر لها بعض الممرضين والأطباء، باعتبارها خدمة ثانوية.
وتابع رداً على الانتقادات اللاذعة التي تلقى على المستشفى أن “الكادر الطبي والتمريضي في البشير يقوم بعمله على مستوى أهم العيادات الطبية في العالم كـ ” MAYO CLINIC” لكنه يفتقر للخدمات الفندقية، ذلك ما يجعل المريض أو مرافقه ينظر بشكل دوني للمشفى“.
فيما أشار الدكتور الخواجا الناطق بإسم حملة الخبز والديمقراطية في حديثه لـ “ندء الوطن” أنه حسب دراسات محكمة في دول مختلفة، والتي أجريت على المراجعين لتلقي الخدمات العلاجية في مراكز رعاية صحية ثانوية أو ثالثية، تقول أولاً، أن طول وقت الانتظار لحين الدخول لزيارة الطبيب في العيادة، والتي قد تمتد لثلاث أو أربع ساعات وربما أكثر في واقع مستشفى البشير، يشكل عامل ضغط نفسي على المريض ينعكس في مدى مواظبته على المراجعة الدورية للعيادة الخارجية ومدى التزامه بتناول العلاج الموصوف من الطبيب.
والنقطة الثانية، تكمن في الوقت المخصص من قبل الطبيب للكشف على المريض، فطبيب الاختصاص في مستشفى البشير يعاين ما بين ثلاث إلى خمس أضعاف الأعداد المحددة وفق المعايير الدولية. ما سينعكس انخفاضاً في نوعية المعاينة ويشكل عامل ضغط وتوتر نفسي شديد يخضع له الطبيب والكادر التمريضي الذي يعمل معه ليصبح جزءاً من روتين العمل في العيادات، وما يسببه ذلك من توتر شديد وعدم ارتياح يعيشه المريض المراجع ومرافقه.
لكن الواقع حسب د. خواجا يقول بأنه على الرغم من امتلاك مستشفى البشير لكوادر بشرية فنية وبنية تحتية، إلا أنها تبقى أقل بكثير من حجم الطلب المتزايد على الخدمات التي يقدمها. وهذا هو السبب الأساسي الذي يفسر الانتقادات التي تصدر عن المراجعين للمستشفى.
حلول مقترحة
يرى د. الخواجا أن مستشفى البشير يتميز بالكادر الطبي التخصصي والكفاءة والخبرة العالية، التي صقلتها تجربة العمل المكثف والمستمر مع مختلف أنواع الحالات المرضية على مدى سنوات طويلة، لكن واقع الحال الموثق والمدعم بالأرقام يقول أن هناك نزفاً مستمراً ومتفاقماً في التخصصات الطبية المختلفة. فعلى سبيل المثال، تجاوز عدد أطباء الاختصاص الذين غادروا ملاك وزارة الصحة خلال الأعوام الثلاث الأخيرة حسب خواجا الـ 500 طبيب، وترافق ذلك مع مغادرة أكثر من %90 من الأطباء الذين يحصلون على شهادة الاختصاص (البورد) حديثاً.
لذلك يرى الخواجا ضرورة وضع سياسات من شأنها حل تلك المشاكل والتي برأيه تتضمن بعدين، الأول يشمل تحسين ملحوظ في الدخل المادي بحيث يحدث فرقاً في معدل الدخل الشهري للاختصاصي حديث التخرج.
ويكمن البُعد الثاني في فرص التعليم المستمر والحصول على فرص التخصص الفرعي، حيث أنها محدودة جداً، وغالبيتها تكون محصورة بالتدريب التخصصي والابتعاث الداخلي لفترة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات في الغالب.
هذا الواقع أدى إلى أن الأغلبية الساحقة من الذين يبتعثون للتخصصات الفرعية وخاصة الذين تؤهلهم للحصول على شهادة البورد في التخصص الفرعي يغادرون وزارة الصحة قبل إكمال المدة الإجبارية للخدمة المطلوبة منهم مقابل سنوات الابتعاث، لتتحول وزارة الصحة إلى مصنع للكفاءات العالية التي تستقر لتخدم خارج البلاد أو في القطاع الخاص بدل أن يعود هذا الاستثمار المكلف مادياً وزمنياً بالفائدة أولاً على نوعية الخدمات الصحية التي يقدمها القطاع الصحي العام لعموم المواطنين.
ويؤكد د. خواجا أنه وفي ضوء هذه القراءة، فإن العاصمة عمان بحاجة إلى ثلاثة أضعاف الإمكانيات المتوفرة في الحد الأدنى من مشافي كمستشفى البشير لتقديم الحد المقبول من الرعاية العلاجية في المستوى الثانوي والثالثي.
في بعد آخر مهم أشار د. خواجا لأهمية تركيز الكفاءات التخصصية الثالثية في أي مجال من المجالات، لتكون في مكان واحد، كمركز زراعة الأعضاء، ومركز جراحة القلب، ومركز جراحة الأعصاب والدماغ، ومركز معالجة الأورام ..إلخ، كل منها ليكون في أحد المستشفيات الكبرى، وذلك لتحقيق الاستفادة القصوى من البُنية التحتية والكوادر البشرية صاحبة الخبرة.
الخلاصة
مشكلة مستشفى البشير تعتبر واحدة من بين أكبر المشاكل الصحية التي تواجه العاصمة عمان على وجه التحديد، لذلك يبقى السؤال سيّد الموقف في نهاية التحقيق، هل فعلاً سيأتي ذلك اليوم الذي يصبح فيه إسم “البشير” من أهم المواقع العلاجية والتي نرغب بأن تكون على مستوى العالم كـ“MAYO CLINIC ” لكن في الأردن؟ أم أننا سنستمر (بتحميل الجميلة) للمواطن الأردني بحصوله على العلاج فقط، وأنه لا داعي لأية خدمات ذات الــ 5 و 6 نجوم، فهي فقط للشخصيات والمستويات المخملية في الأردن؟! وإلى متى سيبقى مستشفى البشير طارداً للكفاءات والخبرات الطبية في ظل ضعف الحوافز المالية والأكاديمية العلمية؟!