“نتنياهو” نهج يحلم بإحياء زمن ولَّى…علي جرادات
مثلما أن من الوهم “تحقيق السلام” من دون حل جوهر الصراع القضية الفلسطينية، فإن من الوهم حل هذه القضية من دون حل جوهرها حق اللاجئين في التعويض والعودة وفق القرار 194 الذي يصعب، بل يستحيل، تنفيذه بمقاربة “إيجاد حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين”، كمقاربة ملتبسة تحوِّل الحق إلى قضية، وتتناسى اختلال ميزان القوى وإجماع الأحزاب الصهيونية، برعاية أميركية، على رفْض الإقرار بالمسؤولية عن اقتلاع هؤلاء اللاجئين وابتلاع أرضهم. ولا يضاهي هذيْن الوهمين سوى الوهم بـ”تسوية الصراع”، وجوهره القضية الفلسطينية، من دون تنفيذ جميع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، كقرارات تختزلها الأحزاب الصهيونية الأساسية في القرار 242 الذي تختزله في التخلي عن “أراضٍ” وليس “الأراضي” التي أحتلت عام 1967، ما يعني تكريس ضم الجولان والقدس، وترسيم وقائع ما أُبتلع من الضفة.
ولئن كان هدف تحويل الأوهام أعلاه إلى حقائق سياسية مُعترف بها هو االمحرك الأساس، إنما دون مجاهرة، لحكومات الاحتلال منذ مفاوضات “الأرض مقابل السلام” في “مؤتمر مدريد”، 1991، فإن تحويل هذه الأوهام إلى شروط سياسة معلنة هو ما يميز الحكومات التي قادها “نتنياهو”، كانعكاس للتحول النوعي الذي طرأ على النظام السياسي والمجتمعي الصهيوني التوسعي العدواني، وعبر عن نفسه بائتلاف الأحزاب الصهيونية العلمانية والدينية التي تشكل امتداداً لجناح “جابوتنسكي وبيغن وشامير”، أشد أجنحة الحركة الصهيونية تطرفاً وعنصرية ودموية وفاشية، وأكثرها تعلقاً بخيالات وأوهام إمكان إنهاء الصراع العربي الصهيوني ووضع حد للمطالب-الحقوق- الفلسطينية مقابل التخلي عن “أراضٍ” لإقامة حكم ذاتي فلسطيني بمسمى دولة في إطار ما يسمى حل “دولتين لشعبين”، المساوي للتخلي عن حق اللاجئين في التعويض والعودة، وعن الحقوق الوطنية لفلسطينيي 48، وعن حق الشعب الفلسطيني عموماً في تقرير المصير وبناء دولة مستقلة وسيدة وعاصمتها القدس.
إننا أمام قفزة خطيرة في سياق تحولات العنصرية الصهيونية إلى فاشية، تعبر عن نفسها في فلتان المستوطنين وتحول أحزابهم إلى لاعب أساسي في صياغة قرارات حكومات الاحتلال، وفي سيطرة الأحزاب الصهيونية الدينية الفاشية على ثلث المناصب العليا والمتوسطة في الجيش والأجهزة الأمنية، وفي سن عدد من القوانين الأساسية العنصرية، وناظمها الإقرار الحكومي لمبدأ “قانون القومية” الذي يقونن، بمعزل عن صيغته، مبدأ إسرائيل غير محددة الحدود “دولة قومية للشعب اليهودي”، أي لليهود كافة، وهو ما يضرب حق عودة اللاجئين، ووجود فلسطينيي 48 وحقوقهم الوطنية، ناهيك عن أنه يضرب إلى غير رجعة وعود إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.
وكل ذلك دون أن ننسى أن حزبيْ “يوجد مستقبل” بقيادة لابيد و”الحركة” بقيادة ليفني لا يختلفان مع نتنياهو على مبدأ “قانون القومية”، إنما على صيغته وتوقيته. فبرنامج حزب “يوجد مستقبل” يعرِّف هوية إسرائيل بالقول: “نحن نؤمن بأن إسرائيل أنشئت كدولة قومية للشعب اليهودي. وينبغي لها أن تبقى دولة ذات أغلبية يهودية وذات حدود آمنة قابلة للدفاع عنها”. أما برنامج حزب “الحركة” فيؤكد على أن:”الهدف المركزي للحركة هو ضمان تثبيت دولة إسرائيل كبيت قومي للشعب اليهودي”، و”ضمان بقاء إسرائيل كدولة يهودية يقتضي المحافظة على أغلبية يهودية بين مواطنيها”. ومثلهما يعرِّف برنامج حزب العمل دولة إسرائيل بأنها: “دولة الشعب اليهودي، وبناء عليه فإن حزب العمل يعارض عودة لاجئين فلسطينيين إلى داخل تخوم دولة إسرائيل، ويتم حل مشكلة اللاجئين بصورة متفق عليها بمشاركة دول المنطقة والمجتمع الدولي، ولكن ليس من خلال منح حق العودة (للاجئين)”.
ما دامت الأحزاب الصهيونية على هذا المستوى من الإجماع فيما يخص قضايا تعريف هوية “إسرائيل” ووظائفها، ورفض تحديد حدودها، ورفض حق اللاجئين في العودة، ورفض الحقوق الوطنية لفلسطينيي 48، ورفض حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني عموماً، فإن من العبث الرهان على ما ستتمخض عنه الانتخابات الإسرائيلية القادمة من نتائج. فنتنياهو وحلفاؤه يعالون وبينت وليبرمان ليسو سوى التعبير الأشد فظاظة عما يجتاح “إسرائيل”، على المستويات كافة، من ارتقاء العنصرية الصهيونية إلى فاشية متصاعدة، يقودها نتنياهو الأيديولوجي “المنفصل عن الواقع”، لدرجة الغائه وإحلال أفكاره محله، وهو ما سيؤدي، من وجهة نظر معارضيه، إلى اتساع نطاق ومضامين عزلة إسرائيل، وزيادة شقة خلافها غير المسبوق مع الولايات المتحدة وأغلب دول الاتحاد الأوروبي، وتوسيع رقعة ما تتعرض له من حملة مقاطعة شعبية غربية، سياسية واقتصادية وأكاديمية، لم تعرف مثيلها منذ نشوئها، بل إلى، وهنا الأهم، إجبار حتى أكثر القيادات الفلسطينية تمسكاً بخيار التفاوض الثنائي برعاية أميركية سبيلاً لتحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، على التلويح بفرط تعاقد أوسلو بالتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية.
هذه هي حدود ومضامين خلافات بعض الأحزاب الصهيونية مع نتنياهو وحلفائه، وفي إطارها لا أكثر، يمكن تفسير إقالة نتنياهو للوزيرين لبيد وليفني، وبالتالي حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وتفسير الخلاف بين “نتتياهو” ورئيس جهاز المخابرات، “يورام كوهين”، الذي حمَّل، ورؤساء سابقين للجهاز، نتنياهو، لا الرئيس أبو مازن، مسؤولية الهبة الشعبية في مناطق 48 ومدن الضفة، والقدس، خصوصاً، ومثله الخلاف الذي نشب بين “نتنياهو”، (في فترة حكومته السابقة) وبين كل من رئيس أركان الجيش، “غابي اشكنازي”، ورئيس جهاز الموساد، “مائير داغان”، ورئيس جهاز المخابرات، “يوفال ديسكن”، الذين اتهموا “نتنياهو”، ووزير دفاعه، باراك، آنذاك، بقلة المسؤولية والعمل على توريط “إسرائيل” في مغامرة توجيه ضربة إسرائيلية للمفاعلات النووية الإيرانية، كضربة تعارضها الولايات المتحدة وتنطوي على إشعال حرب إقليمية، تتجاوز حدود قوة الجيش الإسرائيلي، الذي يتوالى انكشاف مظاهر حدود قوته وقدرته على الردع والحسم. فمن طرده من جنوب لبنان دون قيد أو شرط على يد المقاومة اللبنانية، 2000، إلى إفشال عدوانه على لبنان، 2006، بل هزيمته باعتراف قادته ولجنة تحقيق رسمية، إلى عجزه عن تحقيق نصر ميداني حاسم في ثلاث اعتداءات، بل حروب، شنها بتتالٍ على قطاع غزة المحاصر في 2008، و2012، و2014، إلى عجزه عن إخماد الهبة الشعبية التي انطلقت من القدس في حزيران الماضي، وما زالت مستمرة.
وأكثر، ثمة ما يدعو إلى الجزم بأن الهجوم السياسي والميداني غير المسبوق الذي يقوده نتنياهو في إطار ائتلاف يضم حزبه، الليكود، وأحزاب صهيونية فاشية بشقيها العلماني والديني، إنما يعبر عن قلق أزمة يعانيها منذ سنوات المشروع الصهيوني، حتى وإن بدا الأمر على نحو مختلف. فأهداف هذا الهجوم وأطماعه لا تتناسب لا مع حدود قوة إسرائيل الفعلية، عسكرياً وأمنيا، ولا مع حدود قوتها الفعلية، ديموغرافياً، بدليل ما أعلنه مؤخراً كبار الديموغرافيين الإسرائيليين بالقول: “لم يعد اليهود أغلبية سكانية بين البحر والنهر”، أي داخل فلسطين الانتدابية. ما يعني ضرباً للافتراضين الأساسيين اللذيْن قام عليهما حلم المشروع الصهيوني بجعْل “فلسطين يهودية كما هي انجلترا انجليزية”، وهما: جلب يهود العالم، (أو أغلبهم على الأقل)، إلى فلسطين، وطرد الشعب الفلسطيني، (أو أغلبه على الأقل). هذا ناهيك عن أن زمن موجات الهجرة اليهودية الكثيفة قد ولى، وأن زمن تشريد أو نزوح مئات آلاف الفلسطينيين عن أرضهم في عامي النكبة 1948، و”الهزيمة”، 1967، قد ولى أيضاً، فالعصر اليوم هو غير ذاك العصر، والوعي الوطني الفلسطيني اليوم هو غير ذاك الوعي، والشعب الفلسطيني الذي لم يستسلم طوال قرن من الصراع، لن يستسلم للتصعيد السياسي والميداني الراهن الذي يقوده نتنياهو، وتشبث الأحزاب الصهيونية، وإن بصيغ مختلفة، بهدف “إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي”، يصطدم بكل الحقائق الواردة أعلاه، وأهمها حقائق التوازن الديمغرافي على الأرض، بينما لم تعد شعوب العالم، بما فيها شعوب العالم الغربي، قادرة على تحمُّل رذائل جرائم الحرب الموصوفة، وفظاعات التطهير العرقي المخطط، وارتكابات الإبادة الجماعية الممنهجة، التي تترتب على الهجوم السياسي الصهيوني الذي يقوده نتنياهو.