لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
بورتريه

ناجي العلي… شهيد العشق المقدس

من الذي لا يعرف حنظلة؟؟؟… إنه ذلك الصبي الاستثنائي الذي لا يكبر والذي يصفه قرينه “ناجي العلي” بأنه “ولد في العاشرة من عمره وسيظل دائمًا في العاشرة، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة، ثم يبدأ في الكبر”… ويعلل ناجي العلي ذلك حيث يقول “إن قوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثنائي، مثلما هو استثنائي أيضا فقدان الوطن”.

نعم هو صبي استثنائي، غالبًا ما يشبك يديه خلف ظهره، ويلبس الرث من الثياب ليس هواية، ولا لأنها “موضة” أو “صرعة” يقلد بها الشباب المشبع بالنزعة الاستهلاكية هذه الأيام… يلبسها هكذا لأنه لا يجد غيرها… لأنها تعبر عن واقعه المؤلم المسحوق، مثل أي طفل اقتلع هو وأهله وأبناء وطنه من أرضه تحت وابل من الرصاص والقذائف، وفي أجواء من الذبح والقتل والتشريد الصهيوني، وفي مناخات عربية يملؤها التخاذل والخيانة والتهرب من تحمل المسؤولية.

ناجي العلي… ذلك الثائر بالكلمة والرسم، تقمص شخصية حنظلة ليعبر عن المرارة التي يتجرعها مع مسحوقي وفقراء شعبه، وليكشف لنا أسرار ما خفي من السياسات الكاذبة للأنظمة التي تدعي وقوفها إلى جانب قضية فلسطين بينما تتآمر على شعبها وتساوم عليه وتطبّع العلاقات مع أعدائه.

ولم تكن غزارة إنتاج ناجي العلي إلا تعبيرًا عن مدى حبه والتصاقه بأرضه وقضيته، فقد ترك لنا ما يزيد عن أربعين ألف صورة وكاريكاتير لو وزعت على أيام حياته القصيرة لعرفنا أنه كان يرسم يوميًا من 3 إلى 4 رسومات على الأقل. وهذا إنتاج غزير لم يكن يضاهيه في غزارته إلا إنتاج صديقه ورفيقه غسان كنفاني الذي ترك لنا وبعمر 36 عامًا ثماني مجلدات منوعة في القصة والرواية والمسرحية والأبحاث السياسية والفكرية والدراسات الأدبية والتاريخية، هذا عدا عن رسومه ولوحاته ومقابلاته، وذاك الذي كتبه بأسماء أخرى لا زالت مجهولة لدينا. وغزارة الإنتاج هذه هي تعبير عن فهم دقيق لطبيعة الصراع، فناجي يقول “هكذا أفهم الصراع… أن نصلب قاماتنا كالرماح… ولا نتعب”.

  كان ناجي يدرك تمامًا أن هذا الفهم للصراع وهذا الالتصاق بالقضية وهذه الغزارة الإنتاجية بالرسم والكلمة لها وقع كما وقع الرصاص… وكان يردد دائما “اللي بدو يكتب لفلسطين، اللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت”… وهذا القول يشبه تمامًا الشعار الذي طرحه غسان كنفاني… “بالدم نكتب لفلسطين”.

والمسافات بين الأمكنة في الفكر الثوري الذي تبناه ناجي العلي لا يقطع بالأميال أو الكيلومترات على ظهر حنطور أو عربة أو حتى طائرة، بل إن المسافة للوصول إلى فلسطين كما قال هي “مسافة الثورة”، تولد وتكبر وتنتصر، وعندها نصل إلى فلسطين. فلا هي بعيدة ولا هي قريبة… ثورة تتفاعل وتتداخل وتنتظم مكوناتها… تصنع مجدًا تصنع نصرًا تصنع حرية… إنها فلسفة العاشق… فلسفة من عرف تمامًا أين تتجه بوصلته… أين تكمن قوته… والى أين يوجه قبضاته.

ومن أجل الثورة سخر كل رسوماته، كل فنه وكل حياته. كان ملتصقًا بهذه الثورة، متحدًا معها، عاشقًا ومدركًا أنها السبيل الوحيد للوصول إلى مرحلة الانعتاق والتحرر والعودة… وفلسطين لديه ليست الضفة الغربية أو غزة ولا كلاهما… ولا حتى من النهر إلى البحر… إن فلسطين لدى ناجي العلي وكما قال هو نفسه “فلسطين بنظري تمتد من المحيط إلى الخليج”… حيث كان ناجي قوميًا عربيًا بامتياز.

وليس غريبًا على عاشق الثورة وفلسطين أن يتطور وعيه فهو القائل عن حنظلة “قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة… قدمته كطفل فلسطيني ولكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي، ثم أفق كوني إنساني”.

وناجي العلي هو الذي حمل حنظلة معه من فلسطين وهو في العاشرة من عمره إلى مخيم اللجوء في عين الحلوة وانتقل معه إلى بيروت، فالكويت، فبيروت ثانية، وعين الحلوة مرة أخرى، واقتلع مرة أخرى بعد الاجتياح ليذهب ثانية إلى الكويت ومنها هُجّر نحو عاصمة الضباب والغدر وبلفور… نحو لندن التي كانت بانتظاره بكاتم صوتها لتحتضن جثته بعدما ضاقت عليها الأرض العربية… ودفن ناجي العلي في مقبرة بروك وود في لندن حيث يحمل قبره رقم 230190 وهو القبر الوحيد الذي يرفع عليه العلم الفلسطيني.

لقد استشهد ناجي العلي على يد أعدائه الحقيقيين. طلقة من كاتم صوت جبان أتته من الخلف في رقبته لتخرج من عينه اليمنى… الذي أطلق الرصاصة محترف من عملاء الموساد في حقيقته مهما كان اسمه أو صفته أو ديانته، ومهما حاولت الأجهزة التستر عليه. أغلقت مارغريت تاتشر والتي كانت ترأس الحكومة البريطانية في ذلك الوقت، تلك العجوز العاشقة للصهاينة… أغلقت مكتب الموساد في لندن في أعقاب اغتيال ناجي العلي، ليس حبًا في ناجي العلي ولكن لحرجها من اغتياله، من قبلهم، فوق أراضيها.

الطلقة التي أودت بحياة الشهيد ناجي العلي لم تستطع ولن تستطيع أن تكبح جماح حنظلة، فهو الحارس الأمين القابض على بوصلة التحرير والعودة والانعتاق والحرية… بكل المعاني الحقيقية لهذه الكلمات والمفاهيم في جوهرها، وبكامل مساحة مديات مفاعيلها الوطنية والقومية والإنسانية.

بواسطة
فايز الشريف
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى