ناجي العلي جرح لم يندمل .. وضحكة مُرّة لم تكتمل
كتبه: عماد موسى
من ذا الذي يجرؤ أن يطلق النار على ضوء القمر؟!
من أين تتأتى لجاحد القدرة على انتزاع الفرح من العيون بإخماد الروح لمن حمل خيمته على ظهره، وكانت عشيرته كل فقراء الشعب؟!يوم الأربعاء 22 تموز 1987وفي شارع “إيفز” في لندن، كان الفنان العربي الفلسطيني ناجي العلي قد سار بضعة خطوات باتجاه مكاتب صحيفة القبس الدولية، عندما باغته شاب أسمر البشرة، أجعد الشعر، بإطلاق الرصاص على رأسه، وفر بينما يسقط ناجي على رصيف الشارع وتتبعثر أوراقه. نقل على إثرها إلى المستشفى، وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنية في 29 آب.
الوفاء لناجي العلي وتخليد ذكراه لا يحتاج إلى مناسبة، وهو المتجدد فينا في كل الأوقات، ألم يقل بأن “حنظلة” هذا المخلوق الذي ابتدعه ناجي “لن ينتهي من بعدي، وربما لا أبالغ إذا قلت بأنني قد أستمر به بعد موتي”!
كان عمر ناجي العلي عشر سنوات عندما تم انتزاعه من بلدته الفلسطينية الشجرة في الجليل الأعلى، وهُجرت أسرته الفقيرة التي كانت تعمل في الزراعة، مع أهل القرية باتجاه مدينة جبيل في جنوب لبنان، ومكثت لمدة شهرين في ضيافة إسكافي صديق للوالد، انتقلت بعدها إلى مخيم عين الحلوة.
بدأ وعيه الوطني يتشكل عبر اندماجه في تجمعات الشباب الفلسطيني وأنشطتهم في إحياء المناسبات الوطنية الأليمة مثل وعد بلفور وذكرى النكبة وتقسيم فلسطين، وفي تلك الفترة كان المد القومي الناصري طاغيا في الحياة السياسية، وقد تقرب ناجي من حركة القوميين العرب وتأثر بكفرها ونشط بين عمالها.
ظهرت عنده ملكة الرسم مبكراً، وبتشجيع من رفاقه التحق بأكاديمية الفنون في بيروت، إلا أن ملاحقته المستمرة من قبل الأجهزة الأمنية، وكثرة تردده على السجون منعته من متابعة دراسته.
الرسم الأول في حياته كان عبارة عن خيمة على شكل هرم وفي قمتها تفجر بركان ترتفع منه يد مصممة على التحرير، أعجب بها الشهيد غسان كنفاني ونشرها في مجلة الحرية عام 1963. انتقل بعدها ناجي إلى الكويت وعمل في مجلة الطليعة، ويقول ناجي عن تلك الفترة : ” في الطليعة بدأت أشتغل من فرّاش إلى رئيس تحرير”!
شغفه بالكاريكاتير أنساه الفن التشكيلي حيث بدأ يتوهج في السبعينات وينشر لوحاته بشكل منتظم ومتزايد، انتقل بعدها إلى جريدة السياسة الكويتية، ثم عمل في السفير اللبنانية، وعاد للسياسة مرة أخرى، ثم إلى السفير، بينما ظلت رسوماته تنشر في أكثر من صحيفة، قبل أن ينضم إلى أسرة القبس حتى عام 1985، غادر بعدها إلى لندن بناء على نصائح أصدقائه وحرصا منهم على حياته ، ليعمل في القبس الدولي حتى يوم اغتياله.
تحول ناجي الكاريكاتير من حصرية النخب إلى فضاءات الجماهير، فجاء فنه تبشيرا بالأمل والثورة والولادة من جديد.
يكتب ناجي : “الكاريكاتير ينشر الحياة دائما على الجبال وفي الهواء الطلق وفي الشوارع العامة، إنه يفيض على الحياة أينما وجدها لينقلها إلى أسطح الدنيا حيث لا مجال لترميم فجواتها ولا مجال لتستر عوراتها .. وحنلظة نقطة عرق على جبيني تلسعني إذا ما جال بخاطري أن أجبن أو أتراجع”!
كاريكاتير ناجي يدفعك لمحاكمة ذهنية وتحديد موقفك، هو يوقظ إنسانيتك المستباحة، ويحضرك صاغراً إلى المشهد، ويدفعك لتهزأ من الطغاة والمسيئين أيّا كانوا.. كل من ينتهك آدميتك ووطنك هو عدو.
هو فنان يضع القائد والمثقف والمبدع أمام مسؤوليته الوطنية والأخلاقية دون مجاملة أو تسطيح، وبكلمات قليلة ينشر ناجي بيان الفقراء، ويحيل الكاريكاتير إلى حدوتة تتابع وتروى وتتمرد على القبح والتفاهة والكسل. لا تلتقي فوق رقعتها خطوات الناس المتوجهة نحو القدس، مع الكائنات الهلامية التي تزحف نحو البيت الابيض.
الفنان التلقائي البليغ في جملته الفنية، أُبعد عن الكويت بصفقة ملتبسة وضغوطات مهدت لاغتياله في لندن، لم يرتجف، بل توقع وأدان ورسم قاتليه حتى قبل أن يضغطوا على الزناد.
عقب استشهاده، كان ناجي العلي أول عربي يحصل على جائزة القلم الذهبي الممنوحة من الاتحاد الدولي لناشري الصحف دعما منهم لحرية الصحافة، وجاء في بيان الجائزة “ناجي العلي استخدم رسومه لمهاجمة الاستبداد أينما رآه. أخضعت أعماله للرقابة وتعرض للنفي، لكن أعماله لقيت تأييداً عريضاً؟
أيقونة ناجي “حنظلة”، لم يكن شاهداً محايداً فحسب، بل كان تعبيراً عن الضمير الجمعي للشعب الفلسطيني، وابن الأرض الذي لا يمكن اجتثاثه أو تجاهله، حنظلة هو الوحيد الذي تمرد على ثنائيات ناجي وخرج من إطار اللوحة، وفي بعض الحالات حمل الحجارة ليرجم بها الأعداء أثناء الانتفاضة، أو وقف حزينا يرقب خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، يقبل يد هذه المدينة الجريحة، ويقدم وردة لضحاياها.
دفن ناجي العلي في لندن، وليس في مقبرة الشجرة أو مقبرة مخيم عين الحلوة كما أحب، ولكن حنظلة بقي واقفا يطوف في كل البلدان، يدعو إلى التمرد ويبشر بالثورة ويستعد لعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم،
لترتاح روح ناجي في الأرض التي أحبها وقدم دماءه فداء لحريتها.