موقع السلطة بين الديمقراطي والجمهوري / حاتم استانبولي
الفنان الكبير نهاد قلعي في إحدى مقولاته في مسلسل صح النوم :”إذا كنا نريد أن نعرف ماذا يدور في البرازيل علينا معرفة ما يدور في إيطاليا!”، وعليه: إذا أردنا معرفة ما يدور في رام الله علينا معرفة ما يدور في واشنطن!”
منذ أن استلم ترامب البيت الأبيض بدأت تبرز ملامح جديدة للسياسة الأمريكية تتعارض مع سياسات سلفه الديمقراطي أوباما، وهذا يفرض سؤالًا مهمًا: كيف يمكن قراءة السياسة الأمريكية في ظل تداول البيت الأبيض بين الديمقراطيين والجمهوريين؟
للإجابة عن هذه السؤال علينا التدقيق بالناظم والمعيار، اللذان يحكمان موقف كل من الجمهوريين والديمقراطيين .
الجمهوريون والديمقراطيون يمثلان وجهيّ عملة الرأسمالية بتعبيراتها (الليبرالية والمحافظة) .
الليبرالية التي ترى أن الاستغلال يتطلب طرقًا ناعمة في السياسات، حتى لو كانت حربية، لإعطاء بعد أخلاقي لشرورها تستخدم فيه شعارات حقوق الانسان والديمقراطية والحرية عبر إبراز قوى محلية من قوى وسياسيين ومنظمات ومراكز دراسات وأبحاث محلية، هذه الوسائل غير المباشرة ترى أنها (عدة الشغل) لتمرير سياساتها الاقتصادية والسياسية والثقافية لتستخدمها لتبييض الأفعال الناتجة عن الحروب في ظل الجمهوريين، الذين يروا أن السياسات الرأسمالية الأمريكية الداعمة للنظم الديكتاتورية والعائلية ضرورية لإبقاء حالة التخلف هي الطريقة الأنجح لاستمرار هيمنتهم، وبالطبع لهم وسائلهم الإعلامية ومراكزهم الرسمية في استغلال واضح لمؤسسات الدولة لقمع كل رؤية وطنية معارضة.
الخلاف بين الحزبين يتمحور حول طرق وأساليب استمرار الهيمنة الرأسمالية. الديمقراطيون يرون أن التغيير يتطلب التلاعب في الظواهر من داخلها عبر أدوات هي جزء من مكونات الظاهرة.
في حين أن الجمهوريين يرون أن التاثير يجب أن يكون من خلال العامل الخارجي أي التاثير بقوة من خارج الظاهرة إذا تطلب تغييرها أو إنهائها ومن هنا تفهم حروبهم.
خضعت منطقتنا منذ سايكس بيكو لهاتين الرؤيتين، حيث كانت تعبيراتها الاستعمارية تمارس من قبل الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وحديثًا فإن الحزبين الديمقراطي والجمهوري هما استمرار لهاتين الرؤيتين.
اختلف ترامب عن أسلافه من خلال فتح معركة مفتوحة مع الديمقراطيين داخليًا ألغى كل سياسات سلفه، وخارجيًا رفع الغطاء عن أتباعه واشترط دفعهم للأموال من أجل حمايتهم وفرض عليهم سياسة الحساب المفتوح.
وفتح جبهات سياسية واقتصادية تقوم على أساس مصالح السوق الأمريكية حتى لو تعارضت مع مصالح حلفائه.
ترامب وضع أسسًا جديدة للعلاقات الرأسمالية قائمة على أساس فرض هيمنة رأس المال الأمريكي (المتصهين) الذي لا يقيم وزنًا لمصالح الحلفاء ولا يعترف بمصالح الضعفاء.
في رام الله ترى السلطة وتوابعها من قوى حزبية ومراكز أبحاث ودراسات أنها هي نتاج سياسات الحزب الديمقراطي الذي نجح في اختراق الوعي العربي عامة، والفلسطيني خاصة، منذ كامب ديفيد وحتى أوسلو ووادي عربة، وأنتج واقعًا جديدًا وقوى من داخل الظاهرة تعمل وبشكل ممنهج على تقويضها لتتلاءم مع سياساتها.
يجب أن نفهم تعارض السلطة الفلسطينة ومكوناتها السياسية من على قاعدة أنها تتعارض مع رؤية الحزب الجمهوري المحافظة الأكثر تطرفًا، التي لا تعترف أصلًا بالمصالح الوطنية للشعب الفلسطيني وحقوقه الانسانية التاريخية ولا حتى تعترف به كشعب.
السلطة الفلسطينية وركب كامب ديفيد، ووادي عربة وأوسلو (وكعويشهم من مراكز ومنظمات وشخصيات) يرون أنهم يمثلون رؤية الديمقراطيين، ويعارضون إدارة الجمهوريين من على قاعدة اصطفافهم مع رؤية الديمقراطيين التي تعطيهم حيزًا لممارسة سلطتهم، وتظهرهم على أنهم ممثلون لشعوبهم وتوظف منظومة الأدوات المحلية لتطويع الوعي العام، وخلق بيئة جديدة تعترف طوعًا بضرورة تبعيتها، والاستهزاء بكل القيم الوطنية والتاريخية وتحويل الصراع من وطني إلى صراع على دور الفرد أو المجموعة كمدخل لخلاصها.
هذه الرؤية تنتج سياسة تفتيتية للمجتمعات قائمة على إبرازالهوية الدينية والمذهبية والقومية والإثنية على الهوية الوطنية الجامعة.
وللتنويه فإن رؤية الديمقراطيين والجمهوريين هي حصيلة رؤية تيارات الحركة الصهيونية اليمينية الدينية الأرثوذكسية والليبرالية والتي يتموضع ممثليهم في الحزبين، ويوحدهم ناظم المصالح الإسرائيلية ومعيارهم بقاء إسرائيل قوة تحظى بأولويات سياسية وأمنية حتى أنها تتقدم على السياسات الداخلية وبدأت تعمل على أسرلة المجتمع الأمريكي عبر سن قوانين تمنع انتقاد إسرائيل وممارساتها.
المدقق في السياسة الأمريكية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، الذي شكل فاصلًا تاريخيًا بين مرحلتين، أسقط فيها عامل التحررالوطني لصالح محاربة الإرهاب وعمم المفهوم الإسرائيلي للإرهاب كمفهوم لواشنطن وحلفائها الغربيين.
وأصبح عنوان مصلحة إسرائيل هو العنوان الأول على جدول أعمال المصالح الأمريكية للحزبين الجمهوري والديمقراطي وإن اختلفت تعبيرات وضوحها إلا أننا نستطيع مراقبتها من خلال أرقام المساعدات حيث حظيت بمساعدة 38 مليار دولار في عهد أوباما (خلال 10 اعوام) في ظل التعارض بين أوباما ونتنياهو، هذا يوضح أن مصلحة إسرائيل هي المعيار لسياسة الحزبين. هذا الرقم لم تحظى به في ظل أية إدارة سابقة.
المصلحة الوطنية الفلسطينية والعربية لا يمكن أن تتحق في ظل التبعية لإحدى الرؤيتين إن كانت جمهورية أو ديمقراطية لأنها ستبقى كرة يتلاعب بها في استاد واشنطن والحكم الناظم للمباراة دائمًا نواة الحركة الصهيونية في الحزبين إن كانت (يهودية) صهيونية أورثوذكسية أو ليبرالية.
أي رؤية لبناء المشروع الوطني الفلسطيني عليها أن تاخذ بعين الاعتبار الخروج من ملعب واشنطن وحاكمه وتأكيد جوهر صراعنا الإنساني مع وحشية وشرور الرأسمالية (الصهيونية) وشرورها.
إن مواقف السلطة الأخيرة حول مقاطعة ترامب ووقف العمل بالاتفاقات جاءت كورقة ضاغطة على إدارة ترامب لاستخدمها في الانتخابات الأمريكية القادمة. اللجنة المشكلة من قبل السلطة ومكوناتها السياسية تبين أنها ليست جدية ولا تخرج عن رؤية الحياة تفاوض.
السلطة أصبحت مكون من الرؤية الديمقراطية الأمريكية والليبرالية الصهيونية التي ترى أن دورها هام جدًا في تغيير الوعي الوطني الفلسطيني ليذوب في إطار المصالح الإسرائيلية الأمريكية ويشكل مدخلًا لتقويض الوعي العربي المعادي للصهيونية.
نتنياهو وفريقه بعد أن أخذ من ترامب ما يريده ليقدمه على أنه مكاسب حققها بلا تنازلات ليس لديه مصلحة في صفقة القرن إلا إذا توافقت مع طموحاته في ضم مستوطنات الضفة ومنطقة (ج) التي تشكل 60% من أراضي الضفة، وفيها معظم الثروات الطبيعية المائية والزراعية، وأي منتصر في الانتخابات الإسرائيلية القادمة لن يستطيع العودة للوراء في موضوع القدس والجولان والمستوطنات.
هذا ما سيقدمه كوشنير في خطته التي لن تتطرق للحلول السياسية بل سيطرح الجانب المعيشي للفلسطينيين المرتبط مع منظومة إسرائيل الاقتصادية.
اتفاق أوسلو في الجوهر هو اتفاق أمني وصفقة القرن في الجوهر هي حل معيشي وخدماتي للتجمعات الفلسطينية التي ستكون في كتل اسمنتية سيدقق في هوائها ومائها وغذائها وملاعب أطفالها .