مهدي عامل… مشروع فكري لم يكتمل
مهدي عامل… انسان آمن برسالة مجتمعية… حملها… ناضل من أجلها… واستشهد دونها. استشهد كما كل الأبطال ممن يضحون بأنفسهم – وهذا منتهى التضحية – في سبيل فكرة يؤمنون بها ويناضلون من أجلها حتى الشهادة. ورغم أننا لا نفرق بين أحد من الشهداء إلا أن شهداء الفكر لهم ميزات خاصة بل قل منزلة خاصة.
الفكر هنا بمعنى الإنتاج الفكري وليس مجرد الإيمان بالفكرة والنضال من أجلها… والإنتاج الفكري يعني تحليل الفكرة وتدقيقها، ومعرفة مكوناتها وارتباطاتها وتتبع تاريخها، ومعرفة مآلها وصيرورتها، أي بمعنى الكشف عن جوهرها ومكنوناتها ومختلف ارتباطاتها وتأثرها وتأثيرها على المجمل الإنساني العام.
والفكرة قد تموت إن لم تتجدد وتتطور، بل قد يصبح الإيمان بها عندئذ نوعا من الجمود العقائدي وعبادة الأصنام. وعند هذا الحد تُنتزع منها علميتها وتغوص في المظهر لا الجوهر، ولا يعود هناك مبرر للدفاع عنها والتضحية بالنفس من اجلها إلا من باب العناد والتعصب الأعمى.
وفكر مهدي عامل يكتسب أهميته ليس فقط من خلال كونه فكرا متجددا ومتطورا، ينقب في الظواهر ويكتشف ويلتقط منها الجوهر، بل في كونه مفكرا مناضلا اكتسب أهميته من خلال انطلاقته من الواقع وأبنيته، لا ليفسرها ويكتشف ماهيتها ويلقي الضوء عليها فقط، بل من اجل أن يعود لهذا الواقع وأبنيته مناضلا ثوريا، ممارسا، يجسد فكرا وقادا، ليبني على ضوءه مجتمعا متطورا جديدا.
الدكتور حسن حمدان – وهو الاسم الحقيقي لمهدي عامل – أكاديمي وأستاذ جامعي كان يدرّس الفلسفة في الجامعة اللبنانية، حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون في فرنسا، شارك رفاقه في الحزب الشيوعي اللبناني نضالهم الثوري وخاض معهم كل معاركهم الفكرية والجماهيرية والمسلحة… وفي القواعد العسكرية لهذا الحزب كان يعرف بالرفيق طارق… وأهمية هذه التفاصيل هي في التنويه إلى أن المثقف الثوري ومهما امتلك من عبقرية فذة، ومهما علت مراتبه الأكاديمية والعلمية، لا يجد نفسه اكبر من الحركة الثورية إلا إذا كان مغرقا في ذاتيته ونرجسيته. المثقف الثوري لا يغترب عن الحركة الثورية لأنها الحاضنة التي ينمو فيها الفكر ويتجدد، هي الممارسة التي لا بد منها لقياس صحة أطروحاته وفكره… ومن خلال هذا الفهم المتجذّر حول دور المثقف الثوري لدى رفاقنا في الحزب الشيوعي اللبناني تهيّأ لهذا الحزب أن يحتضن ويرعى نخبة من أهم قادة الفكر في العالم العربي.
مهدي عامل امتشق قلمه ليصنع منه أدوات تصلح كمفاتيح لقراءة الواقع والكشف عن مكنوناته… ولا عجب، فللمعرفة أدوات للكشف والتنقيب عن خباياها. وهذه الأدوات غير متوفرة في السوق المحلية، ويتطلب الأمر للحصول عليها إعدادا جيدا، لها، وللنفس أيضا… يتضمن تطويع عدد من الأدوات الموجودة أصلا وابتكارا عدد آخر منها لتتناسب مع صعوبة اقتحام الواقع المعقد الذي آل مهدي عامل على نفسه إلا أن يكتشفه. لذلك وجدنا انه بالإضافة إلى ابتكار مفاهيم جديدة كليا، وتطويع مفاهيم أخرى، قام في نفس الوقت بتطويع اللغة لتستجيب مع مجموعة المعارف المستجدة. وبذلك خرجت إلى النور دراسته المتطورة – في التناقض- كجزء أول من مشروعه مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني… وهذا القسم كان يركز فيه على أدوات هذا المشروع، ومقاربة هذه الأدوات ليتيقن من نجاعتها للتنقيب في واقع معقد، بكر، وغير مطروق بهذا العمق كواقع حركة التحرر الوطني.
واستطاع مهدي عامل من خلال عمليات التنقيب الفكري بواسطة تلك الأدوات من استخراج مجموعة مفاهيمية باتت هي الأعمق في هذا المجال، تجلى فيها مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي، كمفهوم يعبر فيه عن حالة التبعية والتشابك البنيوي مع الرأسمالية الامبريالية، بالإضافة إلى دراسة تشعبات هذا الموضوع وما يطرحه من معضلات جديدة على الفكر. وهذا كان يشكل القسم الثاني من مشروعه الفكري… ونظرا لان ما وصلت إليه دراسته طرحت على الباحث معضلات جديدة لا بد من تناولها والتصدي لها، قام بعملية تأجيل الجزء الثالث من هذه الدراسة – في تمرحل التاريخ-، ودفع بالقسم الأول والقسم الثاني من هذه الدراسة «المشروع» إلى الطباعة على أمل أن يستكمل البحث في هذا المشروع لاحقا.
ولكن لماذا لم ينجز مهدي عامل كتابه المكمل لمشروعه- في تمرحل التاريخ- رغم وجود متسع من الوقت لديه (من 1972 حتى استشهاده عام 1987) في الوقت الذي أنجز في هذه الفترة مجموعة من الكتب والكراسات والدراسات والمقالات والندوات…الخ؟؟؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في المصداقية العلمية لمهدي عامل. فكتاب في تمرحل التاريخ «ليس دراسة تاريخية» – كما يقول هو نفسه في مقدمة الجزء الثاني- فهو ليس مؤرخ يتتبع احداث التاريخ… بل إن هذه الدراسة «موضوعها واقع مفهومي ليس معطى. بل يجب إنتاجه في عملية متميزة من الإنتاج، هي عملية إنتاج معرفي.»
ومن هنا بالذات كانت جل دراساته فيما بعد مقدمات ضرورية يشق بها الطريق لدراسته واستكمال مشروعه. فكان كتبه «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية عام 1974»، «النظرية في الممارسة السياسية بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان 1979»، «مدخل الى نقض الفكر الطائفي- القضية الفلسطينية في إيديولوجية البرجوازية اللبنانية 1980»، «في علمية الفكر الخلدوني 1985»، ماركس في استشراق ادوارد سعيد 1985»، وانتهاء ب «نقد الفكر اليومي» الذي كان شبه جاهز قبل استشهاده.
كل هذه الأعمال كانت فعلا مقدمات نظرية ضرورية لاستكمال مشروعه. ولكن السؤال الذي يظل عالقا أمام كل المثقفين الثوريين العرب… هل تلك الأعمال كانت كافية للبناء عليها واستكمال ما بدأه مهدي عامل في حياته، واستكمال مشروعه الذي لم تسعفه رصاصات الغدر ولم تعطه الفرصة لاستكماله.
إن استشهاد مهدي عامل قد رمى قفاز التحدي أمام كل المثقفين الثوريين العرب لقراءة مشروعه والتعمق به ونقده وتطويره والوصول به إلى مرحلة معرفية أعلى. فهل نحن بمستوى هذا التحدي؟؟؟.