من يتحدى من؟ / رنا الصباغ
قبل أيام من وصول بعثة صندوق النقد الدولي إلى عمان تصاعد الطخ على حكومة د. هاني الملقي، المنهمكة في البحث عن مخارج – أحلاها مر- استجابة لشروط الصندوق.
اتخذت الحكومة وضعية الدفاع الصامت، باستثناء تصريحات للناطق الرسمي باسمها وزير الدولة لشؤون الإعلام محمد المومني. ثم تطورت المناوشات على عدّة جبهات إلى تراشق بالحجج والبيانات.
الكتل النيابية الست، نقابات مهنية، وسائل إعلام مستقلة، أحزاب إسلامية وقومية رصّت الصفوف ضد منطق الحكومة.
نواب لوّحوا بحجب الثقة عن الحكومة إذا وصل إلى مجلسهم مشروع قانون ضريبة يتضمن توسيعا لدائرة الشرائح الخاضعة للضريبة وتخفيضا للإعفاءات الصحية.
الحكومة كعادتها لا تقيم وزنا كبيرا للرأي العام لأنها لم تأت من رحم المجلس. وتعرف أن غالبية الشعب مسالمة تطارد لقمة العيش. وتدرك أيضا بأن جمع تواقيع تمهيدا لحجب الثقة لا يهدّدها. وهي لا تستشعر ذلك حاليا، وتراهن على نزع الفتيل في صفقات ربع الساعة الأخيرة.
لذلك لا تكترث الحكومة بتهديدات النوّاب أو صرخات الشعب “المكسور ظهره” حين تناقش الملفّات الرئيسة مع بعثة الصندوق، بما في ذلك تصوراتها لقانون الضريبة الجديد وإمكانية تعديل قانون ضريبة المبيعات لاحقا. وهي لا تتردد في مد يدها إلى جيب المواطن المثقوبة- لسد عجز الموازنة وخفض الدين العام- مع أنها تدرك أن الأردنيين الذين يمولون الخزينة غير راضين عن الخدمات العامة مقابل الضرائب التي يدفعونها.
تدّعي الحكومة بأن 95 % من الأردنيين لا يدفعون ضريبة دخل، لكنّها لا تقر بسيف الضرائب غير المباشرة على رقاب الأردنيين. إذ تفرض الحكومة 114 ضريبة ورسما على السلع والخدمات تحت مسميّات مختلفة، بما يضع الأردن في صدارة الدول ذات الضرائب المرتفعة. فبحسب تقارير البنك الدولي، اعتماد الأردن على سلّة الضرائب يفوق مستويات الضريبة في أميركا، ألمانيا، اليابان، سويسرا ومصر.
ويقدّر البنك المركزي نسبة الإيرادات الضريبية لكل أردني بـ434 دينارا سنويا. كما تشكّل نسبة الإيرادات الضريبية 15.5 % من الناتج المحلي في الأردن، وفق نشرة البنك، بدلا من الاعتماد على حفز الاستثمار وجني إيرادات خارجية.
أزمة الثقّة يفاقمها شعور الناس بتراجع مستويات معيشتهم وتعمّق الفقر، البطالة، الإحساس بضعف المؤسسات وعجز الحكومة عن إنفاذ القانون وفرض هيبتها. وثمّة شعور عام بأن موارد البلد وثرواته باتت مستباحة أمام حيتان الفساد، دون رقيب أو حسيب.
أما الشعب المسكون بهاجس تأثير زيارة بعثة الصندوق على جيبه المرقّع أصلا منذ بدء مسلسل “الإصلاحات الاقتصادية” العام 1989، فلا يسمع سوى وعود جوفاء أو صولات من التهديد الصريح والمبطن.
إبر تخدير الحكومة لم تعد تنطلي على الشعب. آخر تطمينات د. الملقي في -القصف الإعلامي المتبادل -كانت وعدا للشعب بأن إعادة النظر بقانون الضريبة “لن تمس الإعفاءات الممنوحة للأفراد أو تؤثر على الطبقة الوسطى”.
هل يدري رئيس الحكومة بأن هذه الطبقة – رافعة تقدّم المجتمعات وصمّام أمانها- تآكلت وانزلقت فئات منها تحت خط الفقر؟
قبلها بأسابيع وعدنا الرئيس بأن الاقتصاد سيتحسن خلال تسعة أشهر، ملمحا إلى تحول حياتنا إلى “قمرة وربيع”. لكنه لم يشرح كيف سيتم ذلك، ولم يسق أمثلة وأرقاما ليعارض بها مؤشرات النمو والوضع النقدي والمالي الحاليين.
بدوره ينفي وزير المالية عمر ملحس وجود أي توجّه لرفع ضريبة المبيعات إلى 22 %، ويتوعد بتحريك قضايا ضد من نشر معلومات “مضلّلة”. ويؤكد أن هذه الأخبار “ضرب من الخيال هدفها التشويش على عمل الحكومة وإثارة الرأي العام”.
إذن، هكذا أصبحت ديناميكية التعامل بين الحكومة والشعب. نفي أو تهديد؛ حكومة قادرة وشعب عاجز.
بالتأكيد البادئ أظلم، وفق المثل الشعبي. خلال عطلة عيد الأضحى، أطلقت الحكومة “بالونات اختبار” عن نوايا تعديل ضريبة الدخل. وألحقت تلك التسريبات بحديث مشابه عن ضريبة المبيعات.
ردّا على التسريبات، بدأ المواطنون يحسبون ألف حساب؛ كيف سيواجهون التعدّي القادم على دخلهم. سهام النقد والتشكيك طالت الحكومة.
أكثر ما يغضب دافعي الضرائب – في الشركات العامة أو الخاصة، وتحديدا تلك الخاضعة للضمان الاجتماعي – هو عجز مؤسسات الحكومة عن لجم التهرب الضريبي الذي يفوق المليار دينار، بحسب دائرة ضريبة الدخل. وكذلك محاربة الفساد والمفسدين، وإعلاء شأن دولة المواطنة والقانون والمؤسسات المستقلة.
ندرك بأن التهرب الضريبي ينتشر بصورة مرعبة، وبخاصة في الأوساط الطبّية والقانونية والهندسية، حيث ينتشر نظاما “فوترة رسمي أو برّاني”. من منّا لم يتعرّض لـ”صدمة” التهرّب الضريبي؛ حين تتهرب جهّة خاضعة للضريبة من استحقاقها عبر أساليب تنطوي -بحكم القانون- على غش، خداع وسوء نية.
رغم صخب الاحتجاج الكترونيا، لم تنتشر بذور حراك مدني وسياسي لتثقيف دافعي الضرائب بحقوقهم على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية، بما فيها المطالبة بتنمية سياسية حقيقية وخدمات عامّة أفضل نظير الضرائب والرسوم.
دافع الضرائب بخاصة خارج عمان – مركز الثقل الاقتصادي والتنموي والسكاني – لا يشعر بأنه يتلقّى خدمات ترتقي إلى مستوى تمويله جزءا من إيرادات الدولة، التي تغطّي معاشات الوزراء والنواب. والأنكى من ذلك، يتطاول مسؤولون على حقوق الناس- في أحيان عديدة- بدلا من خدمتهم. شوارع تحوّلت إلى مصائد موت أو جباية. مستوى الخدمات الطبية والتجهيزات متواضع. شعور المواطن بأنه يشارك في عملية اتخاذ القرار السياسي محدود بسبب نوعية قوانين الانتخاب، التي تفرز ممثلي “جاه ومال”، ينسحب ذلك على مجالس الأمّة، البلديات واليوم محافظات. ولذلك تتدنّى نسب الإقبال على المشاركة في “الأعراس الديمقراطية” موسما بعد موسم.
صلاحيات السلطة التنفيذية صاحبة الولاية العامة بمقتضى الدستور تتراجع يوميا. غالبية المناصب الرسمية والدبلوماسية وحتى اختيار ممثلي الحكومة في مجالس الإدارات تدور على حفنة محظوظة من المحاسيب والاقرباء والأنسباء. مفهوم الولاء والانتماء تغيّر كثيرا. فالموالي اليوم هو من يعمل لخدمة “علية القوم” وعدد محدود من المتنفذين وليس خدمة الوطن.
لم يحاسب أي من المسؤولين بمن فيهم رؤساء حكومات سابقين عن الإخفاقات المتتالية في إدارة الشأن العام، مع أن معرفة أين ينفق “كل شلن” تقع في صلب حقوق دافع الضرائب. ليس ثمّة إجابات عن السبب وراء ارتفاع المديونية الداخلية والخارجية بصورة مرعبة، رغم رفع الضرائب.
الأيام القادمة ستكون صعبة على الأردن والأردنيين، سواء على صعيد التحولات الاستراتيجية في عمقنا العربي أو التحديات الاقتصادية. نواجه اليوم تحدّيات نضوب المنح الخليجية، الاعتماد على أميركا كممول رئيس للخزينة وتداعيات توافقات الحكومة مع بعثة صندوق النقد الدولي. ما هي السياسات التي ستطبق نتيجة تفاهمات على مراحل، تبدأ في الربع الأخير من العام وتتدحرج إلى السنوات القادمة. يفاقم الوضع ترهل الجهاز البيروقرطي، الذي تقضم رواتب منتسبيه وتقاعدهم المدني جزءا مرعبا من الموازنة، بينما يلجأ مواطنون لدفع رشى بدلا من تسديد الضرائب المستحقة للدولة.
حكومتنا لا تكترث بتهيئة الرأي العام قبل اتخاذ قرارات حاسمة. وتختبئ وراء مرجعيات جاهزة لحمايتها لكن لا ضير في أن يحاول د. الملقي وطاقمه التظاهر – ولو لمرّة واحدة- بأنهم يحسبون حسابا لدافعي الضرائب ويحاولون شرح الخيارات المحدودة بين أيديهم للتعامل مع التحديّات الاقتصادية.
فهل تأبه الحكومة بمظالم الشعب ولو لمرة واحدة؟ هل نرى بعض التحسن في الخدمات العامة، أو تطورا يستجيب لحقوق دافعي الضرائب؟