مقالات

منيف.. الروائي حين يصوغ بيانه الانساني من أجل الحرية / حسين ياسين

“الذاكرة لعنة الإنسان المشتهاة ولعبته الخطرة، إذ بمقدار ما تتيح له سفراً نحو الحرية فإنها تصبح سجنه، وفي هذا السفر الدائم، يعيد تشكيل العالم والرغبات والأوهام”.

عبد الرحمن منيف، الذي ولد في عمان وعاش في الأردن لأب سعودي وأم عراقية عام 1952، أحد سحرة الرواية العربية، وأكثرهم انتباها للحظة التاريخية التي عاشها العربي تحت نير الاستبداد والتخلف والجهل.

كرس أعماله الروائية والنثرية الأخرى، أكانت في الفكر والفنون، أم في القصة والرواية والحوار، لهجاء العتمة العربية التي تهيمن على تحريكها أنظمة الاستبداد الشمولية العربية.

ولم يكن مجرد كاتب روائي يعبر بقلمه إلى جوانيات الذات العربية، ليكشف ما تخفيه من تناقضات، لينتقدها فحسب، بل كان معلما في إعادة صياغة صورة العربي الثائر المتمرد العاشق الفنان، ليرسم أفقا في ظل تلك العتمة، يخرج العربي من سكونيته وكسله، ويمنحه الفرصة لنعتق ثائرا متمردا على الطاغوت.

في لحظة بدت حياة هذا الروائي، خليطا من الرومانسية الثورية، والواقعية الاشتراكية والتجريب المتطرف، ذاك ما أظهرته سيرة رجل مترحل، لا ينتمي لمكان بعينه ولا لعرق بذاته، إنه كينونة مفتوحة على أكثر من أفق، أكان ذلك في التجربة الزاخرة بأفياء الرحلة الشاهقة نحو الكتابة، أم تحت ظلال الموقف الذي لم ينتزع الروائي والكاتب والعربي من تدفقه الذي لم يتوقف حتى وهو في نزعه الأخير.

في بغداد درس القانون، ثم انتقل إلى القاهرة، ففرنسا لينال إجازة في القانون من جامعة السوربون، والدكتوراه في الاقتصاد النفطي من كلية الاقتصاد في جامعة بلغراد، ومن ثم العودة الى العراق للعمل فى وزارة النفط، والانتماء على نحو رسمي الى حزب البعث العربي الاشتراكي أيام كان طالبا بالعراق لكن ذلك يدم، إذ طرد لاعتراضه على حلف بغداد، فطرد من العراق بعد توقيع الحلف عام 1955.

لم ينطلق في الكتابة الا حين أخلص لها، فترك البعث، في سبعينات القرن العشرين، ورحل إلى دمشق، ليدون سيرة الصحراء، مختلفا عن مجايليه من الروائيين العرب، في التقاط برهة مختلفة عما كانوا يلتقطونه، فكتب عن العسف والاستبداد والطغيان، لكنه بقي محافظا على روح الجوال المنهمك في رؤية الافق، شاسعا، يمكنه من ان يندفع الى اقصى ما يستطيعه من القول، في النطاق الروائي.

خمسة عشر رواية، انحاز فيها لعوالم تتداعى فيها الرمال على النفط، وتفضح عري الصحراء التي ترتدي قوانين القمع والكبت لقاطنيها، ابرزها: مدن الملح، وشرق المتوسط، والأشجار واغتيال مرزوق، وحين تركنا الجسر، وعالم بلا خرائط بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا وسبقا المسافات الطويلة، وقصة حب مجوسية، والآن هنا.

كانت خماسيته الفذة مدن الملح، إحدى اكثر الروايات العربية والعالمية التي تسجل حالة الفساد التاريخي في الجزيرة العربية، لكن هذه الرواية التي كثف فيها لحظة الاشتعال الانساني وبزوغه من بطن الخراب الى واحة الحرية، بقيت أقرب الى البيان السياسي الواقعي الذي يكشف وجه الجريمة المرتكبة بحق الجزيرة العربية من قادة، تعبدوا في محراب النفط، وتركوا كل شيء إلا نزواتهم ونزعاتهم المظلمة.

وصفه نقاد بالمحرض، والروائي السياسي، واندفعت بعض الكتابات المستعجلة الى اعتباره كاتبا سياسيا، في تورية تخفي براعته الروائية المشحونة بطاقة مشعة على فضح الذات العربية، وتعريتها، كل ذلك كان ينداح في دائرة وصفه باليساري، من باب الهجاء، متناسين أن منيف تمكن من إرساء لون جديد من الكتابة الروائية لم تطرقه الكتابة الروائية العربية، بحيث وظف مفاهيمه وفلسفته عن المكان لتكون هي بوتقة رؤيته في رفض الواقع العربي المزري.

تجلت ملامح هذه الانعتاقة في روايته المدهشة شرق المتوسط، حين فضح اقبية التعذيب العربية، وسجون الاستبداد والطغاة. لقد صاغ فيها تصورا مباشرا لقدرة القمع على تهشيم الروح الانسانية وفض عنفوانها وتدميرها تحت سياط الجلادين الذين هم جزء من معادلة الموت العربية القابعة في سجون طغاتها.

أحدثت “شرق المتوسط” جدلا عربيا واسعا حين صدورها، باعتبارها أول رواية عربية، تصف بجرأة التعذيب الذي تمارسه الأنظمة الشمولية العربية، وقد حرمته جرأته في فضح الصورة المتواطئ على اخفائها للاستبداد العربي من أن يظل بعيدا عن الأضواء الرسمية، وان تمنع كتبه وتحظر، وتجري محاربته في عمله.

لكن ذلك لم يمنعه من ان يخلص لموقفه، وان يتخلص من عقدة السكونية، فكان فعليا يعمل على مشروع تحريضي في كتابته التي لحقتها جراء ذلك تهم المباشرة والكتابة المسيسة، لكن نظرته للابداع كمنت في إنتاج منطقة مشرقة للعربي، يمكنه أن يتطلع عبرها الى حياة افضل من تلك التي يرمي راسه تحت نصل سيافها المقيت.

عرف بغزارة إنتاجه الأدبي، ووصف أحيانا بأنه قدم أدبا شجاعا، كتب في المحظور السياسي، والمسكوت عنه في كواليسها، لكنه كتب في الحب والعشق والجمال وتماهى مع لحظاته الاشراقية وهو يبحث عن مسافاته البعيدة في البحث عن الروح الشفيفة للعربي ووجدانه النقي.

تبرز الأزمة الاجتماعية في رواياته من خلال تركيزه على ظواهر اجتماعية وأنماط محددة من العلاقات المتشابكة بين مختلف الفئات الاجتماعية، وتظهر حدّتها في القمع والاستبداد ووضع المرأة واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء.

نال جائزة القاهرة للإبداع الروائي، وجائزة سلطان العويس، وتفي عام 2004 في سوريا.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى