مقالات

ملامح مقلقة لموازنة مشوهة تنذر بأيام سوداء قادمة

لأول مرة في تاريخ وضع الموازنات العامة، لم يلق مشروع قانون الموازنة العامة للعام (2019) من يؤيده، لا بالنسبة للمحللين والكتاب الاقتصاديين، ولا حتى في صفوف البرلمانيين أو في الشارع أو في صفوف التجار والصناعيين.

فالموازنة بملامحها الأولية أشعلت ردود فعل غاضبة وألهبت حناجر الحراك الشعبي الذي لم يتوانى أبسط المشاركين فيه عن الهتاف ضد الحكومة، والمطالبة برحيلها فوراً وتحقيق إصلاح سياسي واقتصادي، يخلص الأردن من هيمنة التيار الليبرالي الذي أغرق الأردن بالأزمات التي لا حل لها، وأدخل البلاد في دوامة من المشاكل.

أصوات مبحوحة لا تكاد تسمع من أزلام الطبقة الحاكمة، رأت في مشروع قانون الموازنة، وفي الحكومة التي تفتقر للصدق والشفافية في وعودها بسنة قادمة أفضل، أن الموازنة تلبي طموحات الأردنيين الذين يئنون من الفقر والبطالة وانخفاض الاجور وارتفاع الاسعار، أما الباقون من كافة الشرائح الطبقية فلا تكاد تجد اثنين يؤيدان سياسة الحكومة الاقتصادية والاجتماعية.

لقد اكتشف الجميع بأن الحكومة كانت طوال السنين الماضية تراهن على غياب الوعي الطبقي والاصلاحي لدى الشعب الأردني، ولذلك جاءت هتافات الحراك مزلزلة بضرورة الانفكاك من ارتهان الأردن لصندوق النقد الدولي الذي يمثل فقط مصالح الرأسمال العالمي الاحتكاري، والذي كل همه ينصب على الحد من عجز الموازنة وفرض مزيد من الضرائب كشرط لاستمرار تقديم القروض وضمان جني الفوائد وسداد اقساط هذه القروض، حتى اصبح الأردن يسعى للحصول على قروض جديدة لسداد فوائد قروض قديمة بحيث تضخمت المديونية العامة، ووصلت إلى مستويات مقلقة ويستحيل الحد منها في ظل هكذا نهج سياسي واقتصادي.

وجاء الاعلان عن محتوى مشروع قانون الموازنة للعام القادم (2018/ 2019) ليتبين أنه لا يحمل أية مؤشرات ايجابية تخرج الأردن من أزمته المزمنة العميقة، وأنه لم يوضع على اساس تحسين مستوى معيشة الأردنيين وتخفيف الضغوط الهائلة عنهم، والمتمثلة بتآكل مداخيلهم وزيادة معدلات الفقر وانتشار البطالة وارتفاع معدلاتها وما تعكسه من جرائم اجتماعية وارتفاع معدلات الانتحار والقتل والسرقة والسطو على البنوك والمحال التجارية.

لقد جاءت الموازنة العامة أكثر تعاسة مما كان أكثر المتفائلين يتصور، وارقامها وبنودها لا تشير لا إلى تنمية للاقتصاد أو حتى انتعاش في الأفق ولا إلى الحد من التفاوت في المداخيل بقدر ما تعمق من الأزمة الاقتصادية وتزيد من تخمة الطبقات الثرية وطواغيت الرأسمال.

فما هي مدلولات أرقام الموازنة؟ وما هي الفلسفة الاتي تم البناء عليها؟

تشير ارقام الموازنة العامة حسب القانون إلى أن حجم الموزانة العامة يقدر بــــ (9255) مليون دينار بارتفاع قدره (437) مليون، أي أن الحكومة ستكون مضطرة لجمع هذا المبلغ من خلال زيادة الضرائب وخاصة ضريبة المبيعات التي سبق لرئيس الحكومة أن وعد وعداً قاطعاً بتخفيض هذه الضريبة التي تشمل الاغنياء والفقراء، والتركيز على ضريبة الدخل التصاعدية وحسب بيان الحكومة فإن ايرادات ضريبة المبيعات تبلغ (68.4%) من حجم الايرادات الضريبية المتوقعة مقابل (22.5%) ايرادات ضريبة الدخل.

وبالارقام يصل حجم ضريبة المبيعات المتوقع (3610) مليون دينار والدخل (1188) مليون دينار، فماذا يعني ذلك؟ إن اسوأ ما يتمخض عن هذه السياسة الضريبية ارتفاع تكاليف المعيشة بالنسبة لمحدودي الدخل، ويعني أيضاُ دخول الاقتصاد الأردني في حالة ركود عميق كما يعني زيادة ضعف القوة الشرائية للمواطن الأردني. وفي هذه الحالة فإن الركود وانخفاض القوة الشرائية سينعكس سلباً على التجار ورجال الصناعة، ولذلك لاحظنا حضوراً قوياً لهؤلاء في الحراك الجماهيري احتجاجاً على قانون الموازنة وتعديلات قانون ضرية الدخل والمبيعات.

أما بالنسبة لعجز الموزانة فتشير الأرقام إلى بلوغه (646) مليون دينار بنسبة (2%) من الناتج المحلي الاجمالي مقابل عجز مقدار (2.85%) في موازنة (2018) و (3.6%) العام الذي سبق أي (2017).

ونلاحظ هنا انه في خلال السنوات الثلاث الماضية عجز الموازنة في تراجع، وهذا بصراحة من أهم مطالب صندوق النقد الدولي الذي يحرص باستمرار على خفض نسبة العجز لضمان الحصول على فوائد القروض الممنوحة للأردن أو أي بلد يلتزم ببرنامج الصندوق مع أن عجز الموازنات العامة في كافة الدول هو من الأمور الطبيعية لأن الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي يفترض تحقيقها غالباً ما تكون غير ممكنة التحقيق بحكم محدودية الموارد أو الايرادات العامة، وحتى أن بعض النظريات ترى التمويل بالعجز شيئاً ايجابياً، لكن الحكومات المتعاقبة في الأردن لم تلجأ ولا مرة واحدة للأسف إلى ربط هذا التمويل بمشاريع استثمارية تؤدي إلى نشاط اقتصادي يساعد في ايجاد مصادر ايرادات جديدة،تساعد في النهاية خدمة الدين الخارجي.

وبمناسبة الحديث عن أزمة المديونية فقد بلغ اجمالي هذا الدين حسب ارقام الموازنة حوالي (28.4) مليار دينار (أكثر من (40) مليار دولار)، وهذا قياسياً بحجم الاقتصاد الأردني يعتبر رقماً ضخماً ويترتب عليه آثار مدمرة على الاقتصاد رسمياً، ونحن نعرف أن نسبة النمو التي أعلن عنها لا تتجاوز (2%).

وبالنسبة لاعتمادات الموازنة فقد تم تخصيص مبلغ (500) مليون دينار لصندوق المعونة الوطنية للفقراء ودعم الأعلاف، واسطوانة الغاز والطالب الفقير والجامعات والمعالجات الطبية وتوسيع التأمين الصحي.

ولم تشر الأرقام إلى اعتماد مبالغ معينة لتوفير فرص عمل جديدة، مع أن الصحيح هو أن يتم توجيه الإنفاق العام بما يخدم عملية التنمية البشرية وخاصة في مجالات التربية والتعليم وتأمين الخدمات الاساسية وتحسين خدمات الصحة العامة نوعياً وليس كمياً كما لمحت الحكومة.

من المؤشرات السلبية في مشروع قانون الموازنة اعتماد (8.13) مليون دينار نفقات جارية بزيادة نسبتها (33%) فيما النفقات الرأسمالية لم يتجاوز (1242) مليون دينار من ضمنها انشاء انبوب الغاز مع الكيان الصهيوني تنفيذاً لاتفاقية الغاز مع العدو التي لا تزال تلقى دور فعل واحتجاجات غاضبة من الشعب الأردني، ولقد اشرنا مراراً إلى ضرورة زيادة اعتماد النفقات الاستثمارية على حساب النفقات الجارية إذ أن تضخم النفقات الأخيرة من شأنه ارتفاع معدلات التضخم وبالتالي ارتفاع الاسعار التي يعاني منها الأردنيون اصلاً حيث الأردن من أغلى أربع دول عربية.

من المؤشرات التي يمكن النظر اليها بايجابية نقل (29) موازنة وحدة حكومية إلى قانون الموازنة العامة مع أنه كان من المؤمل إرفاق موازنات كافة الوحدات الحكومية بالموازنة العامة، لكن يقابل ذلك مؤشر سلبي يتعلق بنسبة تغطية الإيرادات المحلية (الضرائب) والتي ارتفعت نسبتها من (80.1%) إلى (100%) مع العلم أن الايرادات الضريبية أو الايرادات العامة كان من الأفضل أن تذهب للنفقات الرأسمالية للحد من ارتفاع معدلات البطالة وايجاد فرص عمل جديدة.

أخيراً، لا بد من الاشارة إلى مسألة في غاية الأهمية وهي ما اشار اليه وزير المالية من أن الموازنة راعت الاستمرار في تنفيذ برنامج الاصلاح المالية أي ان الحكومة تتفاخر في علاقة التبعية لصندوق النقد الدولي، هذه العلاقة التي جرت الكوارث على الأردن اقتصادياً واجتماعياً، فهل الحكومة واعية لخطورة الاستمرار بهذه العلاقة التي اثبتت على مدى (30) عاماً أنها تعمل فقط لمصالح الرأسمال العالمي وتحقيق الفوائد المالية على حساب نهب خيرات البلاد؟؟

لقد تعالت هتافات الحراك الشعبي بضرورة رحيل الحكومة، وتغيير النهج السياسي والاقتصادي والحقيقة أن رحيل الحكومة لم يعد يجدي بدون اصلاح سياسي يسبق الاصلاح الاقتصادي، فلو رحلت مائة حكومة بدون هذا الاصلاح فلن يتخلص الاردنيون من الازمات وأكثرها بشاعة الفقر والبطالة، ومن يتخلص من المدوينية الآفة التي تنخر في الاقتصاد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى