مكافحة الكورونا بعدم الاقتراب من الموازنة العامة
ليس عيبا أن يواجه الاقتصاد في أي دولة أنواع من الأزمات في حالات طارئة وخارج السياق، كالكوارث الطبيعية أو الجوائح الصحية أو الحروب أو أي من المسببات التي تترك آثارها على الإيرادات والنفقات والتغير في مجمل حسابات الموازنة العامة، لكن العيب يكمن في عدم التحوّط لتلك الأزمات المتوقعة والخفيّة والتعامل مع آثارها حين حدوثها، كذلك الأمر ينطبق على معالجة أزمة ما بخلق أزمة أو أزمات تصيب قطاعات أخرى خاصة القطاعات الاقتصادية، فالدولة واحدة والاقتصاد الوطني اقتصاد واحد لا يقبل النجاح في أحد جوانبه مقابل التعثّر أو الفشل في جانب آخرإذ أن المسألة لا تحتمل التّباري والتّباهي والاستعراض وتنافس المؤسسات لتحقيق المكانة الأولى واحراز قصب السّبق.
منذ نهاية العام 2019 أصاب العالم أجمع وعلى حين غرّة فايروس كورونا (كوفيد 19) الذي اعتبر وباءً جائحا يجتاز الحدود، لا تقتصر خطورته على صحة الانسان فحسب بل تمتد إلى جميع مناحي الحياة وفي مقدمتها الاقتصاد بكل مكوناته وجزئياته وخاصة الاقتصاد الكلّي، فأصبح لزاما على كل الدول ومنها الاردن اتخاذ اجراءات صحية وقائية وعلاجية وما يترتب عليها من اجراءات اقتصادية للحد من انتشار الوباء. في الجانب الصحي فإن أي إجراء يهدف إلى الحفاظ على حياة الناس يلقى قبولا عاما والتزاما شخصيا من المواطنين وتجاوبا للتعليمات الصحية بشرط أن لا تدخل المواطن في أزمات أخرى تنعكس سلبا على حياته المعيشية وتغير في أولوياته من تحدي الوباء إلى تحدي انخفاض مستوياته المعيشية، وهنا تلعب الدولة من خلال سياستها المالية والنقدية الدور الرئيس في التعامل مع الحياة الاقتصادية المستجدة وعلى وجه الخصوص تأمين المواطنين ضد مخاطر الفقر والجوع.
القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة الأردنية في ظل أزمة الكورونا، والتي اتسمت بالتخبط والبعد عن العقلانية والرؤية العلمية وما يمكن أن يرافقها من انعكاسات سلبية على السلم المجتمعي وفقدان الثقة بجميع سياسات الحكومة، بل خلق فجوة عدائية قابلة للتوسع بين الحكومة والشعب، هذه القرارات أعلى بكثير من الإجراءات المطلوبة ولا داعي لها وأكثر كلفة من الحاجة لمواجهة الوباء وإن نتائجها الاقتصادية ستكون أكثر تأزيما وترديا للاقتصاد الوطني الذي يعاني أصلا من مجموعة من الأزمات، واذا كان لا بد من زيادة الإنفاق في مثل هذه الظروف فإن موازنة الدولة مهما كانت حالتها هي الكفيلة بذلك وليس جيب المواطن، فحالة الموازنة العامة لم تواجه حالة غريبة أو طفرة بسبب أزمة الكورونا بمعنى أن العجز في الموازنة العامة حالة مستمرة ودائمة وفي نهاية كل سنة مالية يكون العجز أكثر مما خطط له في قانون الموازنة، فعلى سبيل المثال لا الحصر في العام الماضي 2019، كان المقدر للعجز في الموازنة بعد المنح 645.57 مليون دينار اصبح في نهاية العام 1214.49 مليون دينار.
وإذا كان الربع الاول في العام الحالي يبين دور الموازنة العامة في تمويل الاقتصاد الوطني لا بد من مقارنة الإيرادات والنفقات العامة مقارنة بالربع الأول للعام الماضي أي ما قبل الكورونا، حيث تشير البيانات الحكومية إلى أن الإيرادات المحلية للربع الاول من العام الحالي بلغت 1482 مليون دينار مقابل مبلغ 1646 مليون للربع الاول من العام الماضي، أي بانخفاض قدره 164 مليون دينار وهذا الانخفاض سببه تراجع حصيلة الإيرادات غير الضريبية بملغ 280.7 مليون دينار بينما ارتفعت الإيرادات الضريبية بمبلغ 116.7 مليون دينار، أما الإنفاق فقد بلغ 2019.8 مليون دينار، والتي تمثل حوالي 22% من موازنة العام 2020، مقابل 2005.3 مليون دينار للفترة ذاتها من العام الماضي، والتي تمثل 21.6% من موازنة العام ،2019 أي أن الزيادة قدرها 14.5 مليون دينار فقط، وسجلت الموازنة العامة للربع الأول من العام الحالي عجزا قدره 450 مليون دينار، مقابل 298 مليون دينار للربع الأول من العام الماضي، وهذا العجز قد يتغير من لحظة لأخرى لعدة أسباب، منها ما يزيد العجز وأخرى تخفض العجز. فمثلا إذا ما أضفنا الشهر الرابع (شهر الحجر والإغلاق) أي الثلث الأول من العام الحالي فإن النفقات العامة ارتفعت إلى 2.7 مليار دينار، وهي أقل من الفترة نفسها من العام الماضي بمبلغ 157.1 مليار دينار، أي بنسبة 5.5% حيث انخفضت النفقات الجارية 2% أما النفقات الرأسمالية التي تمثل 4% من النفقات العامة فقد انخفضت بنسبة 47% .
إذاَ حالة الموازنة العامة في ظل الكورونا لم يتغير عليها تشوهات جديدة، بل تكررت حالتها كما كانت عليه في السنوات السابقة، خاصة وأن حجم النفقات للوقاية والعلاج من الوباء، هي ضمن قدرة النفقات المخصصة لبعض الوزارات والمؤسسات ذات العلاقة بالصحة والسلامة العامة، دون اللجوء لقرارات وأوامر دفاع لتمويل النفقات باقتطاع أي جزء من دخول المواطنين، فالخدمات الصحية وحدها قد تم تخصيص لها مبلغ 958.17 مليون دينار في موازنة 2020 منها 105 مليون نفقات رأسمالية.
وبناء عليه فإن ما تم جمعه من تبرعات أو خصم من الرواتب ووقف الدعم، أعلى بكثير مما تحتاجه عمليات مكافحة الوباء وأعلى مما تم إنفاقه والمخطط لإنفاقه، وتبدو موازنة الدولة وكأنها محايدة ليس في بالها تقديم تضحيات، بل إن سلوكها يقول أنها تريد أن تخرج من الأزمة رابحة وهذا ما تدل عليه المؤشرات التي اعلنتها الحكومة في حجم الايرادات والنفقات. فقد اتخذت الحكومة الكثير من القرارات/ الأوامر استنادا إلى تفعيل قانون الدفاع، أهمها وقف العلاوات والبدلات لموظفي القطاع العام بدءً من الشهر الخامس وحتى نهاية العام، ووقف الدعم الحكومي المقرر في موازنة العام الحالي، وتشكيل صناديق للتبرعات والحصول على منح خارجية خاصة وغيرها من الايرادات التي أضيف بعضها إلى الموازنة والبعض الآخر بقي في حسابات الصناديق، ومنها صندوق (همّة وطن) الذي وصلت إيراداته إلى مبلغ 94 مليون دينار، بهدف دعم المواطنين أرباب الأسر من عمال المياومة واليوميات الذين تعطلت أعمالهم بمبلغ 50 – 136 دينار لرب الأسرة الواحدة، بشروط وقيود معينة وتعجيزية حيث وحسب بيانات الحكومة قد وصل العدد حتى منتصف الشهر السادس من العام الحالي الى 230 ألف أسرة لم تساهم الحكومة سوى بمبلغ 27 مليون دينار وعلى ثلاث دفعات، بينما صندوق همة وطن قد ساهم بمبلغ 19 مليون دينار للدفعة الثانية، أما بقية أنواع الدعم للمواطنين فهي نفقات مقررة سابقا في الموازنة الحالية والموازنات السابقة وغير مرتبطة بأزمة الكورونا، بل تم تقليصها، وكما تمت الإشارة سابقا فان تكاليف العلاج والوقاية التي تحملتها الموازنة فهي مقررة في موازنات الخدمات الصحية للعام الحالي.
على سبيل المثال لا الحصر، فقد استفادت الموازنة العامة من مجموعة من القرارات خلال الأزمة وبما توفر من بيانات وتنفيذا لأوامر الدفاع، فقد أوقفت الحكومة الدعم بكل أنواعه جزئيا أو كليا والمقرر بموازنة العام الحالي وقدره 130 مليون دينار، والمعونة النقدية المتكررة بمبلغ 146مليون دينار، كما أوقفت العلاوات والبدلات الشخصية والعائلية والإضافية وبدل النقل والتنقل وعلاوة الميدان والعمل الإضافي والعلاوات الأخرى المقررة لثمانية أشهر من العام الحالي، وهذه العلاوات كانت إعادة تقديرها في نهاية العام 2019 بمبلغ 945.178 وتم تقديرها للعام 2020 بمبلغ 1.022.624مليون دينار، أي بزيادة قدرها 77.446 مليون دينار عن كامل العام، أي 51.631 مليون دينار للأشهر الثمانية المتبقية حتى نهاية السنة المالية.
وقد جرت وفورات جانبية، خفضت من النفقات الجارية والرأسمالية خلال فترة الحظر والإغلاق، خاصة نفقات السلع والخدمات والكهرباء والمحروقات والصيانة وإدامة التشغيل والسفر بمهمات رسمية، والمقدرة سنويا بقيمة 401 مليون دينار. أما فاتورة النفط فقد أدى الانخفاض الشديد في السعر العالمي للنفط الخام إلى توفير ما يزيد عن مليار دينار أي ما يزيد عن 50% من القيمة الاعتيادية لفاتورة المستوردات النفطية، بينما أبقت الحكومة الضريبة الثابتة على المشتقات النفطية كما كانت عليه قبل الأزمة، بينما أوقفت فرق سعر الوقود في فاتورة الكهرباء.
دون شك أن الأردن سوف يحصل على نصيبه من المنح الدولية لمواجهة الآثار الاقتصادية للكورونا، وقد بدأت بوادرها تتحقق من خلال استعداد البنك الدولي بتقديم منح وقروض إضافية للأردن بقيمة 400 مليون دولار بالإضافة للحصول على 140 مليون دولار ضمن برنامج التسهيل الممتد، ووصول المنحة الأمريكية والبريطانية بمبلغ 26 مليون دولار لدعم الفئات الأكثر تضررا من الكورونا، كذلك الحصول على المنحة اليابانية بقيمة 100 مليون دولار، أما الاتحاد الاوروبي فقد صرحت سفيرته في الأردن أن الاتحاد سيعدل مكونات مشروعاته الجارية لمساعدة الاردن بقيمة 355 مليون يورو للمساعدة في تخفيف الأثر الاجتماعي والاقتصادي لوباء كورونا، وتقديم 200 مليون يورو إضافية للمساعدة بحماية الاستقرار المالي.
أما نفقات الحكومة من الموازنة العامة فلا تسمن ولا تغني من جوع، إذ أن دعم عمال المياومة والذين تعطلت أعمالهم مصدرها تبرعات المواطنين والشركات وأموال الضمان الاجتماعي، وكل ما قدمته خزينة الدولة مبلغ 27 مليون دينار، أما دعم المشاريع الخاصة بمبلغ 500 مليون دينار فهي قروض من البنك المركزي تتحمل خزينة الدولة فوائدها لصالح البنوك التجارية بنسبة 2%، أي ما يقارب 7 مليون دينار حتى نهاية العام، وتمت الإشارة سابقا بأن تكاليف العلاج موجودة تلقائيا في موازنة 2020 بل أن وزارة الصحة والمستشفيات والمراكز الصحية قد اقتصدت كثيرا في نفقاتها، حيث اقتصرت خدماتها على الحالات الطارئة وعلاجات الأمراض المزمنة خلال فترات الحظر. والخطوة التي يمكن اعتبارها إيجابية ومشجعة وتحد من حالة الانكماش المتوقع (4%) بالقرار الحكومي بتخفيض ضريبة المبيعات على الفنادق والمطاعم السياحية من 16% إلى 8% والتي يجب أن تنسحب على باقي القطاعات.
اذاَ لو ما تمت مقارنة الإيرادات العامة مع النفقات العامة خلال إدارة أزمة الكورونا وأثر ذلك على الموازنة العامة فإن النتيجة تقول بأن الموازنة قد انخرطت في الأزمة الصحية بمكاسب مالية عبر تهرب الفريق الاقتصادي من الإنفاق العام ورمي الكرة في ملعب المواطن والمؤسسات الخاصة.