مقالات

مفارقات التطور السياسي والمجتمعي والثقافي العربي

من المفارقات التي تستدعي إعمال عقولنا –كمثقفين يساريين وليبراليين ديمقراطيين عرب- تتجلّى في توصيف التطور السياسي والمجتمعي والثقافي في المجتمعات العربية لمرحلتين متمايزتين ومتناقضتين، الأولى تبدأ منذ بداية القرن العشرين حتى عام 1971، والثانية تبدأ منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي حتى اللحظة الراهنة.


منذ بداية القرن العشرين، وعشية الحرب العالمية الأولى، وانهيار الدولة العثمانية، ومن ثم انتشار الحركات السياسية الوطنية الليبرالية الديمقراطية – في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي- من أجل الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والنهوض الفكري والاقتصادي، ومساهمتها في تعزيز مناهج التنوير والعقلانية، وروح التكافل والتضامن الاجتماعي الوطني حتى عام 1928 عند تأسيس “الإخوان المسلمين” بدعم القوى الرجعية، للوقوف في وجه الحراك النهضوي الديمقراطي، وصولاً إلى قيام ثورة يوليو 1952 وبداية مرحلة جديدة من النهوض الوطني والقومي التحرري والاجتماعي، تميزت بانتشار الأفكار التوحيدية الوطنية المعادية للرجعية والإمبريالية والصهيونية، إلى جانب انتشار برامج وشعارات النهضة والعدالة الاجتماعية والوحدة القومية والاشتراكية، بصورة عميقة وعفوية في أوساط الجماهير العربية التي انحازت إلى الفكر الناصري وشعاراته الوحدوية القومية التقدمية، ورفضت –بعفويتها أيضاً- الاحزاب والحركات الرجعية عموماً وجماعة الإخوان المسلمين خصوصاً.
وفي هذه المرحلة –خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956- أصبحت مصر الناصرية، رائدة وقائدة النهوض الحضاري، الوطني والقومي، المعادي للاستعمار والصهيونية، في مقابل الأنظمة الرجعية خاصة في السعودية والأردن والمغرب وليبيا واليمن وغيرها، من عملاء النظام الاستعماري والإمبريالي، التي كرست جهودها ضد مشروع النهوض القومي الناصري بكل أبعاده السياسية والحضارية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
المرحلة الثانية (منذ بداية سبعينيات القرن العشرين حتى اللحظة الراهنة)، وبمقارنة المرحلة الأولى مع المرحلة الراهنة، نلاحظ الفرق النوعي الهائل بين المرحلتين، من حيث النهوض الحضاري والمد السياسي الوطني والقومي، وانتشار مظاهر التكافل الاجتماعي وتكريس مظاهر الوحدة الوطنية في معظم البلدان العربية، بعيداً عن النزعات والصراعات المذهبية الطائفية الحادة، إلى جانب انحياز معظم الجماهير العربية للمشروع النهضوي الحضاري المعادي للإمبريالية والصهيونية آنذاك، على النقيض من المرحلة الحالية التي تتسم بالهبوط السياسي والمجتمعي وانتشار قيم الإحباط واللامبالاة، على الرغم من أن نسبة الأمية والجهل في المرحلة الأولى، كانت أكبر بما لا يقاس منها في المرحلة الحالية.
فعلى الرغم من انتشار الفقر في أوائل ومنتصف القرن العشرين، لكنه لم يصل إلى درجة البؤس واليأس والانحرافات (تزايد الجرائم والتشغيل الإكراهي للأطفال واضطرار بعض النسوة أن تأكل بثديها، وتزايد تعاطي وتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة.. إلخ) التي يعيشها الفقراء في هذه المرحلة. وهنا أستدرك القول برفضي، توجيه اللوم إلى جماهير الفقراء الذين يعيشون اليوم حالة من الإحباط واليأس، مسترشدين بكلمات ماركس “يغيب العقل حين يغيب الدقيق”، بل نوجه اللوم والنقد الموضوعي الصريح لقوى اليسار والقوى الديمقراطية العربية التي لم تعمل على توعيتها وتحريضها وتنظيمها، ولم تبادر إلى معرفة ووعي تفاصيل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت دوما وراء تشكل الوعي العفوي للجماهير، فكانت النتيجة – كما نشهد في المرحلة الراهنة- مزيداً من الإحباط واللامبالاة أو مزيداً من الاستسلام للقضاء والقدر ولجوء الجماهير البسيطة إلى السماء عبر تعاطفهم أو التحاقهم في صفوف الحركات والجماعات الإسلاموية.
إن إعمال عقولنا من خلال المقارنة بين المرحلتين المشار إليهما، من خلال وعينا لطبيعة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في كل منهما، سيمكننا من استخلاص النتائج الناجمة عن كل مرحلة، لنكتشف مظاهر التردي والفشل والهزائم المتلاحقة منذ ثمانينيات القرن الماضي أو عصر الانفتاح الساداتي وصولاً إلى توقيع اتفاق كامب ديفيد، إيذاناً ببداية أفول وتراجع الدور الطليعي الوطني والقومي لمصر، وافتتاح مشهد صعود القوى والأنظمة الرجعية العميلة، في ظروف تزايدت فيها مظاهر الخضوع والاستبداد والإفقار والبطالة، التي أفسحت بدورها مناخات نمو انتشار الحركات الإسلاموية من جديد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى