مشكلة استبدال شعار التحرير بشعار الدولة
نبذة مختصرة:
مع أن فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة أطلت برأسها مراراً في النقاش السياسي الفلسطيني، إلّا إنها هذه المرة تحظى بمساحة نقاش واسعة، سواء عبر المقالات اليومية في الصحافة المحلية أو العربية، أو عبر تنظيم الندوات بشأن هذه الفكرة.النص الكامل:
يعتقد البعض، وهم كثر، أن طرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة ناتج من فشل خيار الدولتين، وذلك بفعل التمدد الاستعماري الصهيوني على كامل فلسطين، استيطاناً ومصادرة أراضي، وهو أمر انبثقت منه أيضاً أشكال من التداخل الديموغرافي، بحيث غدا من المستحيل الحديث عن دولتين منفصلتين. إن الغريب في هذا الطرح أنه يبدو كأنه تفاجأ بحقيقة المشروع الصهيوني التوسعي القائمة أساساً على مصادرة أكبر قدر ممكن من الأراضي، وتوسيع الاستيطان عبر ضخّ أكبر عدد ممكن من المستوطنين، وكذلك ترحيل أكبر عدد من الفلسطينيين، مباشرة مثلما حدث في سنتَي 1948 و1967، أو عبر سياسات تهجير متعددة.
إن إعادة طرح الفكرة للنقاش بهذا الزخم يمكن إرجاعها إلى مأزق المشروع الوطني الفلسطيني، والذي نتج من فشل مسار التسوية السياسية القائمة على اتفاق أوسلو. فذلك الاتفاق لم يحقق حلم الدولة كما توهم موقّعوه، ولا حوّل الضفة وغزة إلى سنغافورة العرب مثلما أشاع مهندسوه، ولا أوقف تمدد المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، بل على العكس تماماً: زاد عدد المستوطنين أضعافاً عمّا كان عليه قبل الاتفاق، وكذلك زادت مساحات الأراضي المصادرة وعمليات نهب الموارد. وفي مقابل ذلك حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على سلطة للحكم الإداري الذاتي تحملت أعباء الاحتلال، والتزمت وظيفياً بحمايته وحماية وجوده الاستعماري كدور وظيفي لم يُخفه الاتفاق أصلاً، ولا الممارسة اليومية لجهاز السلطة. وكنتيجة إضافية تمزق الشعب الفلسطيني في انقسام مدمر، وتفككت مؤسسات منظمة التحرير بحيث غدت هياكل بيروقراطية مفرغة من أي فعل حقيقي ليحل محلها (مركز قرار) يتمثل في نخبة ضيقة على رأس جهاز السلطة وتنظيمه الحاكم.
هذا كله أدخل المشروع الوطني الفلسطيني في مأزق حقيقي بحيث غدا من الضرورة رفع شعار إعادة بناء المشروع الوطني وأدواته الكفاحية. وكان من الطبيعي – ضمن منطق الفكر الدولاني – أن يستشعر هذا الفكر، ما دامت الدولة لا التحرير محور تفكيره، أن شعار الدولتين بات في مهب الريح، ليبدأ من جديد في التفكير في فكرة الدولة، لا بالخروج من منطق هذا الفكر عبر ممارسة نقدية لهذا الفكر لذاته، وإنما عبر تنويع الفكرة ذاتها بطرح موضوع الدولة الواحدة.
لقد كُتب كثير عن فكرة الدولة الفلسطينية في حدود سنة 1967، وتراوحت الكتابات ما بين مؤيد ومعارض. ومع أن الفكرة اعتُمدت في برنامج الإجماع الوطني، إلّا إن عدة إشكاليات أحاطت بهذا الهدف وحفزت النقاش بشأنه. أولى تلك الإشكاليات هي استبدال شعار التحرير بشعار الدولة وما استتبعه ذلك من مقاربات جديدة لآليات جديدة وخطاب جديد، بدا كأنها تهيل التراب على هدف التحرير لمصلحة هدف الدولة من دون تحرير، بل عبر تسويات تتطلع إلى “سيادة ما”، ليس بالضرورة حقيقية، في مقابل تنازلات كبيرة، مثلما تجلّى في أوسلو مثلاً. وبالتالي تحول شعار الدولة إلى مدخل للتنازل السياسي، وخصوصاً أن مَن يتحكم في القرار الوطني، وبالتالي في مستقبل تحقيق الشعار، ليس مؤتمناً عليهما. هذا من ناحية، أمّا من ناحية ثانية، فإن هذا الشعار (الدولة) بات يُطرح كبديل للشعار / الهدف الاستراتيجي للنضال الوطني، أي تحرير فلسطين وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية. فمن الطبيعي ووفق منطق الأمور، قبل منطق قانون التراكم الهيغلي، أن يتطلب تحقيق هدف تاريخي سلسلة من الأهداف والمحطات المرحلية على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي. لكن في الحالة الفلسطينية أهيل التراب بكل ما في الكلمة من معنى على الهدف الاستراتيجي لمصلحة الهدف المرحلي، بحيث غدا الهدف المرحلي (دولة أراضي 67) هو الهدف الاستراتيجي، وهذا ما تأكد عبر مسيرة أوسلو ذاتها. وليس هذا فحسب، بل جرى أيضاً تأكيد الاعتراف بمشروعية الكيان الصهيوني في فلسطين.
ومع أن الهدف المرحلي المعلن في برنامج الإجماع الوطني يحظى بتأييد دولي تسنده سلسلة قرارات شرعية دولية، إلّا إن خطاب الدولة (وإن تمسّك بتلك الشرعية، وهذا أمر مفهوم ومنطقي على سبيل حشد الدعم الدولي) أعلى من شأن مراعاة تلك الشرعية على حساب الحقوق التاريخية لشعبنا في وطنه، عبر شطبه شعار تحرير فلسطين من دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن مَن يحدد أهداف نضال الشعب الفلسطيني هو الشعب لا قرارات الشرعية، فضلاً عن أن بقاء هذه الأخيرة ذاتها، أو تغييرها، يرتبطان بموازين القوى الفعلية على الأرض، الأمر الذي يعني القدرة، عبر النضال لتغيير الموازين، وتغيير قرارات الشرعية الدولية ذاتها.
مشكلة فكر الدولة
المتتبع لمسار الفكر السياسي الفلسطيني الرسمي الفصائلي منذ سنة 1967، يلحظ ظاهرة الانتقال من فكرة التحرير إلى فكرة الدولة، مع تهميش الأولى وإسقاطها من الخطاب. وعليه، انتقل شعار تحرير فلسطين، أو تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، مثلما ورد في برامج الفصائل، إلى مشروع السلطة الوطنية في سنة 1974، وإلى دولة فلسطينية على حدود سنة 1967، وإلى دولتين لشعبين، وإلى مجلس الحكم الإداري الذاتي مثلما تجسد في السلطة الفلسطينية. هذا المسار لم يغير فقط هدف النضال الفلسطيني من تحرير فلسطين إلى دولة بجانب دولة المشروع الصهيوني، بل حدد أيضاً أدوات المسار الجديد وخياراته، وحتى نمط تنظيره السياسي. ويكفي للتدليل على ذلك عرض المقاربات التالية: إن مفهوم المقاومة الشعبية، وأحياناً السلمية، ملتبس تماماً، وقد جرى ترويجه كبديل من مفهوم الكفاح المسلح وممارسته، كأحد متطلبات الدور الوظيفي الأمني لسلطة الحكم الإداري الذاتي. كما تم ترويج جهاز السلطة السياسية كبديل من جهاز منظمة التحرير، وعلنية المؤسسات الفصائلية كبديل من العمل السري الثوري، وغلبة الخطاب الدبلوماسي القانوني كبديل من خطاب النضال والتحرر الوطني. تلك بعض وليس جميع المقاربات التي يمكن رصفها لتوضيح حقيقة أن الانتقال من هدف التحرير إلى هدف الدولة استتبع الانتقال إلى خطاب وأدوات ونمط تفكير جديد هي ببساطة أحد تجليات المرحلة العريضة المسماة مرحلة أوسلو.
كذلك فإن هذا الفكر يُسقط من حساباته تفكيك وإنهاء المشروع الصهيوني في فلسطين، لا بل عندما يطرح خيار الدولة الواحدة فكأنه يعلن التسليم التاريخي بالوجود الصهيوني ومشروعه في فلسطين وبنتائجه: كنهب الأراضي وزرع ملايين المستوطنين على حساب شعبنا في فلسطين، وفي هذا إعادة لما قدمته القيادة الفلسطينية في اتفاق أوسلو، وفي رسالة عرفات إلى رابين المتضمنة الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل. والغريب أن هذا المنطق يبدو أنه لا يعترف بالنتائج الكارثية لاتفاق أوسلو، ولا بالتنازلات التاريخية من طرف القيادة الفلسطينية، وعلى رأسها الاعتراف بشرعية المشروع الصهيوني، ليعود ويكررها بصيغة مختلفة هذه المرة. لذلك فإن أي حديث عن حل نهائي للقضية الفلسطينية لا يتضمن تفكيك وإنهاء المشروع الصهيوني في فلسطين لن يكون حلاً نهائياً بقدر ما سيكون شطباً لحقّ الشعب الفلسطيني في وطنه التاريخي، وحقّ لاجئيه في العودة إلى أراضيهم وأملاكهم.
ولا يخلو طرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة عند البعض من قدر كبير من السذاجة السياسية التي تحدد آلية قيام تلك الدولة عبر انضمام الفلسطينيين إلى دولة المشروع الصهيوني، فنصبح نحن كشعب وكمواطنين كتلة ديموغرافية مؤثرة في جهاز الدولة الموحدة وسياساتها بحيث نلغي طابعها الاستعماري. تلك الآلية لا تخلو من سذاجة سياسية موصوفة؛ فهل يتوقع أصحاب هذا الطرح أن الصهيونيين من الغباء والسذاجة كي يصادقوا على تفكك مشروعهم الاستعماري عبر آليات ديمقراطية سمحوا لنا بها عن طيب خاطر؟ ألا يقرأ أصحاب هذا التوجه ما خطّه المثقفون والسياسيون الصهيونيون من آلاف المقالات والدراسات عن القنبلة الفلسطينية الديموغرافية، ومخططاتهم لكيفية التصرف معها بحيث لا تؤثر في مستقبل مشروعهم؟ ألم يقرأوا مثلاً قرارات مؤتمرات هيرتسليا المتعاقبة بشأن تلك القنبلة الديموغرافية؟ المؤسسة الصهيونية تفكر في هذا وفق ترتيبات سياسية تسيطر على قراراتها: سياسات تدفع إلى تهجير أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين، ومَنْ يتبقّ يتحول إلى عبد / عامل في المشاريع الإسرائيلية. هذا كله مع توسيع مصادرة الأراضي، وزيادة مطردة في عدد المستوطنين. هكذا يفكر الصهيونيون، وهكذا يقررون، وهكذا يمارسون.
وللأمانة العلمية، يجب الإشارة إلى أن قوى المقاومة الفلسطينية، ومنذ انطلاقها في سنة 1965، طرحت حلاً ديمقراطياً للمسألة الفلسطينية، عبر شعارين متلازمين أولهما شرط للثاني: إنهاء الوجود الصهيوني في فلسطين كمؤسسات وهياكل وأيديولوجيا، وقيام الدولة الديمقراطية العلمانية التي يتعايش داخلها الجميع. إن ميزة هذا الحل هو أنه يقوم على إنهاء المشروع الصهيوني في فلسطين لا التعايش معه، هذا أولاً، وثانياً أنه ينطلق من البديهية التاريخية الصحيحة بالمطلق: فلسطين وطن مستعمَر يجب تحريره قبل الغرق المبالغ فيه في الحديث عن تفصيليات شكل النظام السياسي في فلسطين ما بعد التحرير.
وإذا كان من المنطقي أن يقدم شعبنا تصوره لفلسطين المتخيلة ما بعد التحرير، فإن من الشطط السياسي بمكان الغرق في نقاش تفصيلي لشكل هذه الفلسطين قبل تحريرها، ولا سيما أننا نتحدث عن مرحلة تاريخية جديدة، ربما تبدأ بعد 100 عام مثلما أشار الحكيم جورج حبش مرة. ولذلك لا أعتقد أن من الحصافة السياسية بمكان ذلك النقاش التفصيلي لشكل فلسطين المتخيلة: دولة ديمقراطية موحدة؛ دولة ثنائية القومية؛ دولة واحدة بمجتمعين منفصلين. لقد حددت المقاومة، ومنذ انطلاق الثورة المعاصرة، شعارها التاريخي الصحيح بتقديري حتى اللحظة: الدولة الديمقراطية العلمانية، لكن الأهم من ذلك هو ربط هذا التصور للحل النهائي بما يجب إنجازه: تحرير فلسطين وإنهاء الوجود الصهيوني فيها وتفكيك مؤسساته وبُنيته.
أخيراً، إن مراجعة نقدية لمسار النضال الفلسطيني يجب أن تتناول السياسات والمنهجية والأدوات لا الحقوق التاريخية، ولنعتبر بالمثل اليوناني: هنا الوردة فلترقص هنا، وهنا القلعة فلتقفز، لأن مسار الفكر السياسي الفلسطيني، في مراجعاته النقدية العديدة، لم يفعل سوى الرقص عند القلعة والقفز عند الوردة! فالمراجعة النقدية، إذا أريد لها أن تكون نقدية فعلاً تعيد الاعتبار إلى المشروع الوطني التاريخي، فإنه يتعين عليها أن تنطلق من المربع الأول: تحرير فلسطين لإنهاء وتفكيك المشروع الصهيوني في فلسطين. أمّا إذا كان ضرورياً تقديم تصور عام ونهائي لفلسطين ما بعد التحرير، فإنه سيكون بإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية على أنقاض المشروع الصهيوني لا بالتسليم بوجوده، وهنا بالذات يكمن الفرق بين تصور نهائي يتطلب إنهاء المشروع الصهيوني، وتصور نهائي ينهض على قاعدة الاندماج بالمشروع نفسه.
ومن المنطقي الاعتقاد أن مهمة تحرير فلسطين وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية هي مهمة تاريخية، وفاتحة لمرحلة تاريخية جديدة، ليس من عمر فلسطين فحسب، بل من عمر الوطن العربي والإقليم ككل أيضاً. فالكيان الصهيوني يملك عناصر قوة بارزة دفعت الراحل حبش إلى وصفه بالإمبريالية الصغرى، وهو ما تجلى في أن التوسعية والعدوانية الصهيونية لا تطالان فلسطين فحسب، بل المنطقة العربية ككل أيضاً، من دول الجوار وصولاً إلى ليبيا وتونس والجزائر والعراق. فالعبث الصهيوني في المنطقة واضح، الأمر الذي يعني أن بقاء الكيان الصهيوني هو بحد ذاته خطر يهدد الأمة العربية ككل، وليس الشعب الفلسطيني فقط.
غير أن من الصحيح القول إن العنصر الرئيسي لقوة الكيان يكمن في الدعم الإمبريالي له، الأميركي بالدرجة الأولى، ولذلك يغدو النضال ضد هذا الكيان وفي سبيل تحرير فلسطين، هو ذاته النضال ضد الإمبريالية في المنطقة، وهذا ليس حلماً مثلما يخيل للبعض، بل حقيقة. لقد بدأ هذا النضال في رأينا، يحقق في العقد الأخير مكتسبات على مستوى الإقليم، أهمها تراجع المشروع التقسيمي للعراق وسورية، وإن لم يندحر تماماً حتى اللحظة، وذلك نتيجة هزيمة التيار الإسلاموي السياسي بتعبيراته كلها، باعتباره الذراع الدموية للمشروع الإمبريالي في المنطقة، من إخوان مصر وتونس حتى القاعدة والدواعش في سورية والعراق، الأمر الذي يعني خلخلة عوامل القوة لدى الكيان الصهيوني الذي يراهن بحياته على المشروع الإمبريالي في المنطقة. كما يمكن ملاحظة تبلور محور المقاومة للمشروع الإمبريالي والكيان الصهيوني كمحور مناهض أيضاً لمحور الأنظمة العربية التطبيعية في الخليج، والتي هي السند غير المعلن، بل المعلن أحياناً، للكيان الصهيوني. واللافت للنظر أن مؤتمر هيرتسليا في عدة مؤتمرات في العقد الأخير بات يطرح أسئلة جدية عن مستقبل الكيان نتيجة تطورات هذا العقد، وهي أسئلة تطال الديموغرافيا والأمن والجغرافيا والقدرة العسكرية.
لهذا، فإن عوامل تحقيق تحرير فلسطين قائمة في الواقع باعتبار أن تلك المهمة مهمة عربية وأممية وليس فقط فلسطينية، وباعتبارها جزءاً من مهمة تاريخية أكبر هي مهمة تحقيق المشروع التحرري العربي النهضوي.